باكتشاف الذات.. نستفيد من تجارب النمور الآسيوية ( 2من2)

إن مشاركة المؤسسات والأفراد في العملية التنموية هي عنصر أساسي باعتبار أن التنمية هدف قومي يمس كل طوائف المجتمع المدني وليست مسؤولية السلطة وحدها, ‏وإذا كان القطاع العام غير قادر على تحقيق التنمية المطلوبة فقد برز موضوع الخصخصة في الفترة الأخيرة بقوة على الساحة, القطاع الخاص لديه قدرة كبيرة علي ضخ الاستثمارات وإقامة المشاريع وخلق الوظائف‏, حيث لم يعد الوضع كالسابق، فالشركات والأفراد أصبح لهم تأثير مباشر في التنمية وخلق فرص الاستثمار‏, علاوة على مشاركة الطبقات المتوسطة وشرائح الشعب المختلفة في المشاريع تخلق وتنمي روح الانتماء الوطني, ولإثراء الموضوع.
نود أن نشرك أكبر عدد من الدول العربية في المقارنة لكن في ظل الأزمة السياسية في العراق لا أعتقد أنه من الإنصاف مقارنته بالنمور في هذه الظروف, الاقتصاد السوري ربما يكون مؤهلا للمقارنة بصورة أكبر, وضع الاقتصاد السوري ما زال ينبئ أن إمكاناته غير مستغلة على نحو رشيد، بينما يمكن لهذا الاقتصاد أن يعطي نتائج أفضل ويخلق مستوى رفاه اجتماعي أعلى، فيما لو تم تأمين الشروط التشريعية المناسبة والبنية التنظيمية المطابقة والإدارة الحسنة، وأهم ما يحتاج إليه الاقتصاد السوري هي استغلال التزايد السكاني والنظر إليه على أنه نعمة وليس نقمة بخلاف نظريات التشاؤم الاقتصادية التي هي على غرار نظريات مالتوس, انظروا إلى الصين بهذا الكم السكاني كيف حققت المعجزات الاقتصادية, فإنه على غرار مصر تحتاج سورية النظر إلى التنمية البشرية واجتثاث بؤر الفساد ودخول مجال اقتصاد المعرفة وتفعيل مراكز البحث العلمي وتطوير الجامعات والتركيز على التدريب وخلق الكوادر الوطنية لأن الاقتصاد الحديث هو اقتصاد معرفة يقوم على تكنولوجيا عالية، حيث تعاني سورية من تبعية تكنولوجية خارجية ولا يقدم البحث العلمي إنجازات ملموسة خصوصا في ظل سعي الدول الكبرى وشركاتها العملاقة لجعل البحث العلمي مكلفاً ومعجزاً للدول الصغيرة. أي أن القضية هي قضية ذاتية المصدر واعتماد على الذات بصورة أساسية وهي شبيهة بالحالة المصرية وأعتقد أن هذا ينسحب على بقية الدول العربية.
لا ننكر أن سورية حققت توسعا تعليميا كميا، غير أن عملية الإصلاح منذ انهيار النظم الاشتراكية المختلفة لم تأخذ حقها, لكن بخلاف الكثير من الدول، فإن أهم ما يميز سورية هي أنها لا تعاني مديونية ترهق اقتصادها وتجبرها على اتباع وصفات تفرضها الجهات الدائنة، وهذا يمنحها مرونة كبيرة في تحديد خياراتها ويعزز استقرارها واستقلاها الاقتصادي على المدى الطويل وهو بل شك شرط مهم للنمو الاقتصادي, سورية التي تقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة، وقد أثقل سيرها وأربك تعاملها وتيرة السرعة في الاقتصاد العالمي فهي في حاجة إلى خيارات مستقلة تناسبها وإلى مرحلة انتقالية خاصة بها تقوم فيها بعمليات تكييف أنظمة عملها وآلياتها مع اقتصاد السوق ورفع خبراتها فيه.
إن التغلب على الصعوبات المتراكمة عليها تاريخيا كي تجهز نفسها لمرحلة انطلاق قوية وسريعة, وتلعب والعلاقات السياسية الدولية ضمن هذه الأوضاع دوراً مهما في إعاقة النمو الاقتصادي السوري وخاصة العلاقة مع الدول الكبرى الحاكمة للمؤسسات الدولية والخاضعة لسيطرتها وتشكل هذه صعوبة خاصة أمام سورية، وأعتقد أن أهم ما يعوق تقدمها الاقتصادي أيضا هو العامل السياسي ووجودها في قلب المواجهة, لكنها وهي المنادية بالعروبة يجب أن تلتفت بصورة أكبر إلى العالم العربي وتقيم التحالفات الاقتصادية معه بدل الاعتماد على قوميات أخرى في المنطقة تغلب القضايا السياسية فيها وتنال من عمل التقدم الاقتصادي العربي, فالصين واليابان ساعدتا دول النمور الآسيوية أوقفتها على أقدامها، ويبقى العامل السياسي هو سبب كل التخلف في العالم العربي, من هنا نعرف لماذا جاهد الغرب وعمل على فشل الوحدة السورية مع مصر, لكن السؤال الذي يفرض نفسه لماذا تمكن الغرب من العرب فقط وأفلتت منه الشعوب والقوميات الأخرى التي هي على غرار النمور الآسيوية؟ فلماذا لم تتمكن الدول العربية التي كان عدد منها أكثر تقدما وتنمية من البلدان الآسيوية في الستينيات من إحداث نهضة وتنمية شبيهة؟
وفي الخليج لا يزال الحلم بكيان سياسي واقتصادي يراود الخليجيين على الرغم من العقبات والعثرات التي تحول دون إقامة كثير من المشاريع الخليجية الكبرى منذ نشأة مجلس التعاون الخليجي أوائل الثمانينيات, غير أن التطورات السياسية والاقتصادية المتسارعة إقليميا وعالميا فرضت تحديات على دول الخليج تجاه الإسراع في وحدتها السياسية والاقتصادية والتي ستجعل دول المنطقة تتعامل من موقع القوة مع بقية دول العالم كتكتل اقتصادي نفطي ذي نفوذ عالمي يستطيع التفاوض ويستطيع أن يفرض شروطه, وبعد تحقيق التكامل الاقتصادي الخليجي وإنجاز مشروع الوحدة النقدية, يحق لدول الخليج أن تصبح نمورا خليجية.
ختاما: فإن الدول التي لا تحترم نفسها ولا تسلم مقاليد الإدارات الاستراتيجية والتخطيطية والتنموية والإدارات الحرفية من شركات ومصارف بأيدي مواطنيها وتشكك في مؤهلاتهم وخبراتهم أو تضعها في المرتبة الثانية يصعب عليها اللحاق بركب نموذج التنمية الآسيوية ونمورها الأشاوس, تلك الدول التي أجبرتنا على اختيارها كنموذج مشرف للتنمية لأنها اختارت أن تعيش هي ومواطنوها بعزة وكرامة كالنمر الذي رفض وصاية الأسد وغيره من الذئاب على الغابة, ولتتحرر بذلك من الهيمنة الغربية وتعتمد على نفسها في بناء اقتصاد يكاد سنا برقه يخطف الأبصار, فهل ما زال هناك متسع من الأمل لأن يتمكن العرب من الاستفادة من دروس نجاح التجارب الآسيوية الفذة؟ الإجابة نعم بشرط احترام الذات.
دواؤك فيك وما تشعر وداؤك منك ولا تبصر
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي