حشرة عرفت الاستنساخ قبل البشر

في طفولتي لطالما شدني عالم النمل وجلست لفترات طويلة أرقبهم وهم يكافحون ويبذلون جهودا مضنية لنقل قطعة سكر أو بقايا الطعام، أتذكر تلك الأيام كلما سألتني جارتي عن حل لجيوش النمل التي تغزو منزلها ورغم تعاطفي معها إلا أنني أقف في صف النمل ذلك الكائن الذي أقصى ما سيفعله لنا عضة بسيطة تسبب وخزا وحكة، وقد يكون أسوأ من ذلك بقليل بالنسبة لمن يعانون الحساسية، ولنا في قصة التابعي الجليل الذي كان يطعم النمل أسوة حسنة. حدثتني إحدى الأخوات أنها كانت مثار سخرية لزميلاتها في العمل لأنها أنقذت نملة شاهدتها وهي تصارع الماء لأجل البقاء فمدت لها عصا لتصعد عليها وتخرج سالمة، تقول محدثتي إنها لو تركتها تلقى حتفها لن تستطع تحمل تأنيب الضمير.
فهذا الكائن صغير الحجم قدم للبشرية معلومات وخبرات ساعدت الإنسان في تطويع أمور حياته اليومية فتجمعات النمل تعد مدرسة في التنظيم الدقيق بداية من توزيع الأدوار إلى التضحية بالنفس من أجل الجماعة ومعاقبة المخطئ بأقسى عقوبة وحياته كفاح مستمر من أجل البقاء، وسأذكر لكم بعض عجائب ذلك العالم.
فالتنظيم المروري الدقيق للنمل الذي يفوق البشر مكنه من التنقل من مكان إلى آخر خلال لحظات في أكثر الطرق ازدحاما دون حدوث أي تصادمات أو خلل ودفع بعلماء ألمان من معهد دريسدن للدراسات التكنولوجية لإنشاء «مزرعة خاصة للنمل» فائقة الدقة بكل ما فيها من طرق ومعابر ومدوا طريقا سريعا بمسارين مختلفي الحجم يمتدان بين مستعمرة النمل ومادة سكرية، ثم راقبوا الأنماط المرورية للنمل وأدخلوا المعلومات التي توصلوا إليها في برنامج على الحاسب الآلي. وجاء في الدراسة، التي نُشرت في مجلة «نيو ساينتست»، أن المسار الأضيق سرعان ما أصبح مزدحماً بالنمل، لكن ما أدهش العلماء هو أن جموع النمل الذاهب حرصت على تحويل وجهة النمل الآتي من الاتجاه المعاكس إلى مسار آخر، ما أدى إلى تجنب حدوث اختناقات مرورية مطلقا، ثم طبق الباحثون الألمان ما تعلموه من خلال دراسة تلك الحشرة، وابتكروا نموذجا حاسوبيا لشبكات أكثر تعقيدا لمسارات متباينة العرض والطول، واكتشفوا أن النمل اتبع الطريقة نفسهل في تنظيم حركة المرور، حيث أعادت جموع النمل الذاهب توجيه جموع النمل القادم من الاتجاه المعاكس إلى ممرات أقل ازدحاما أو إجبار النمل القادم على اتخاذ مسار أطول، حيث استطاع الوصول إلى الغذاء بسرعة وفاعلية أكبر، وبقي على العلماء معرفة كيفية تداول النمل لهذه المعلومات فيما بينها ومن ثم تطبيق هذه الطريقة على البشر، والمعروف الآن وبعد عدة اكتشافات أن النمل يتواصل مع بعضه ومع الحشرات الأخرى بعدة طرق منها سوائل الجسم أو ما يعرف بـ pheromone المختلفة كل نوع لنقل إشارة معينة حسب متطلبات الوضع أو عن طريق إصدار أصوات تنتقل من خلال الهواء أو التربة وهذا الإعجاز ورد ذكره في القرآن في سورة النمل من خلال خطاب ملكة النحل التحذيري لبقية النمل التي فهمها سليمان - عليه السلام.
والنمل عرف الاستنساخ قبل البشر وهذا ما توصلت إليه الباحثة آنا هيملر البروفيسور في جامعة أريزونا وفريقها، حيث وجدوا أن هناك نوعاً من النمل في الأمازون يدعى ميكوسيبوروس سميثي أحادي الجنس (كله من الإناث) ومتطابق البصمة الوراثية نتيجة لتكاثره عن طريق الاستنساخ من الملكة وهذا النوع من التكاثر حصل بطريقة ثورية غير معتادة وما زالت الدراسة مستمرة لمعرفة الفترة الزمنية التي حدثت فيها هذه الثورة. واستخدم النمل في العلاج ومنه ما هو مفسر علميا والبعض لا يتعدى كونه نوعاً من الأساطير والدجل ومن الأمور التي تثير التعجب استعمال أهالي جزيرة بالي عقاص (ضرس النملة) في خياطة وعلاج الجروح الخطيرة وذلك بوضع رأس النملة على الجرح بشكل يسمح لإحدى كلابتيها بأن تقرص طرف الجرح و الكلابة الثانية الطرف الآخر. فتغلق الحشرة فكيها، ثم يقطعون الرأس و تبقى الكلابتان ثابتتين على الجرح وينتج عنها التئام طبيعي وتكفي خمس إلى سبع نملات لالتئام جرح يبلغ طوله عشرة سنتيمترات. ولقد مورست هذه الطريقة في فرنسا وفي إيطاليا، أما في وقتنا الحاضر فحدث ولا حرج عن كثير من الخزعبلات ومنها استخدام زيت النمل للقضاء على نمو الشعر نهائيا كبديل لليزر ولن أدخل في التفاصيل العلمية، بل يكفي أن نسأل أنفسنا كم نملة نحتاج لإنتاج علبة الزيت مقاس 200 مل وكم نملة نحتاج لإنشاء مصنع لزيت النمل؟!!
أبعد كل هذا والكثير الكثير من معجزات هذه الحشرة (التي قد نعود للحديث عنها لاحقا) تستحق منا كل هذا النكران للجميل وإبادة تجمعاتها؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي