باكتشاف الذات.. نستفيد من تجارب النمور الآسيوية (1-2)

بعد أن ودعنا عام الثور واستقبلنا هذا العام الجديد 2010 وهو عام النمر طبقا للتقويم الفلكي الصيني السنوي, ويزعم المنجمون أن النمر قوي من الداخل يقدس ذاته, كريم ويمتلك قوى سحرية تساعده على طرد الأزمات والإخفاقات, وبعد أن تعب الاقتصاد العالمي من الأوقات الكارثية فهل سيستعيد بهائه ورونقه الخافت ويجلب له الحظ السعيد في قضاياه المالية لأنه تقلد نمرا؟
استنادا إلى التوقعات (غير الاقتصادية، الفلكية)، فإن الأزمة المالية ستستمر خلال عام 2010 بل ستشتد وتجتاز النقطة الحرجة اللازمة, بعدها فقط ستصبح أمور الأزمة الأكثر سوءا خلفنا, دول النمور الآسيوية وهي: تايوان، سنغافورة، هونج كونج, وكوريا الجنوبية, سميت نمورا لأنها حققت معدلات كبيرة في النمو الاقتصادي وصلت إلى 10 في المائة ودخلت مجال التصنيع وصنفت على أنها بلدان متقدمة, ساعدتها في ذلك الصين واليابان, ومن جاور السعيد يسعد, وها هي اليابان أكبر نموذج للتقدم والتنمية لأنها احترمت ذاتها وعاداتها وتقاليدها قدست العمل الجماعي الذي هو أحد أسس مفاهيمنا الدينية فيد الله مع الجماعة.
في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية سعت هذه الدول جميعا إلى حماية عملاتها من المضاربات ومنع هروب رؤوس الأموال وتعزيز التعاون التجاري, فكيف تحولت هذه الدول في أقل من 30 عاما من أوضاع اقتصادية أقل ما توصف بأنها متردية وفقيرة ومتخلفة اقتصاديا إلى حالة من الازدهار والقوة والعنفوان القريبة من سلوك النمر أو ربما وصفت بالمعجزة وهي التي لا تحدث إلا على يد نبي كما نعلم, ليس هذا فحسب بل إن الطريق لم يكن مفروشا لها بالورد فقد ضربت تلك الاقتصاديات أزمة مالية قوية سنة 1997 استغلها البعض للنيل من إنجازاتها ووصفها بأنها مجرد نمور من ورق لكنها استطاعت أن تتغلب على تلك الأزمة.
ويعود السبب في تقدمها في أنها ركزت على الذات واستثمرت في الإنسان, لذلك استحقت بجدارة أن تكون نموذجا يحتذى به, تايلاند التي انطلقت منها شرارة أزمة 1997 دخلت مرحلة النقاهة عام 1999 وتركزت قطاعاتها الاقتصادية على الصناعة 40 في المائة، والزراعة 11 في المائة و49 في المائة خدمات, وأهم صادراتها أجهزة الكمبيوتر والملابس والأرز, ثم سنغافورة التي تتمتع بمؤشرات عالية في مجال الحرية الاقتصادية، حيث تغطي شبكة اتفاقيات التجارة الحرة نحو 60 في المائة من الناتج المحلي السنغافوري, ولها باع طويل في مجال اقتصاد المعرفة وتقنية المعلومات, بعد ذلك تأتي كوريا الجنوبية التي اعتمدت في منتجاتها على السيارات وغزت الأسواق الأمريكية, كما حققت تقدما هائلا على صعيد الاتصالات والتكنولوجيا وغدت الأكثر نضجاً واحتلت المرتبة العاشرة اقتصاديا على العالم, ثم جاء دور هونج كونج التي استطاعت أن تتخلص من الركود الاقتصادي ووصلت إلى انتعاش اقتصادي واستقرار واثق الخطى, وإذا كنا نبحث موضوع الاستفادة من تجارب النمور الآسيوية، فإن مصر هي الدولة العربية الأولى المؤهلة للمقارنة.
على الصعيد العربي فقد شهدت مصر طفرة اقتصادية هائلة تؤهلها لأن تكون نمرا اقتصاديا‏,‏ المؤشرات الاقتصادية المصرية ما زالت تدعو إلى التفاؤل بأن تحقق مصر مركزا اقتصاديا متقدما على المستوى العالمي أيضا, لكن‏ البحث عن مستقبل اقتصادي مشرق لها يحتم علينا أولا فهم الماضي وتدارك أخطائه والتغلب على الأسباب التي أدت إلى ضعفها الاقتصادي, وأولها اعتماد السياسات التنموية القائمة على التخطيط الاستراتيجي البعيد الأمد مع الأخذ في الحسبان أن مقياس التقدم هي المؤشرات الاقتصادية وحدها. ثم التخلص من سمة التخطيط المؤقت والبرامج التنموية قصيرة المدى التي استهدف معظمها معالجة مشكلات مؤقتة‏، خصوصا بعد أن فقدت الأهداف الاقتصادية بعدها الاستراتيجي للتطوير, وحتى تتمكن الدول العربية التي هي على غرار مصر من اللحاق بركب الدول الآسيوية يجب أن تؤمن بأن مصادر قوتها وضعفها تكمن في داخلها ولا تحكمها سياسات قوى عظمى، وخير دليل على ذلك فإن انتصار تشرين الأول (أكتوبر) ‏1973‏، وما صحبه من تطورات سياسية واقتصادية لاحقة, تم ليس فقط بفضل التخطيط العسكري ولكن أيضا بفضل تصميم القيادة والشعب معا لتحويل الهزيمة إلى نصر‏.
الجانب الاقتصادي يتطلب تحقيق معدل نمو اقتصادي ثابت يزيد على ‏9 في المائة‏ سنويا لسنوات متتالية أسوة بالدول الآسيوية خلافا للنمو الحالي الذي لم يصل إلى 5 في المائة بعد, وكذلك العمل على تحرير السياسات المالية والاستثمارية وتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية التي تسمح للدول الدائنة بالتدخل في شؤون البلاد الداخلية, وقد أثار الكثيرون قضية الديون ومساوئها في مقالات سابقة, أي باختصار أن ما نحتاج إليه هو النظر إلى الذات وتطويرها وكان الرئيس الراحل أنور السادات محقا وهو صاحب قرار الحرب والسلام الذي ينتظر منه التنمية الحقة وهو الوحيد الذي قطع علاقاته بالاتحاد السوفياتي قبل سقوط المعسكر الاشتراكي, وقال في كتابه ''البحث عن الذات'' إنه يفتخر بأنه فلاح مصري, أي أن التنمية شأن ذاتي تنبع من الوعي الداخلي, وكذلك قيادة عملية التنمية تحتاج إلى دراسات بحثية وعلمية‏ معتمدة وموثقة والتقليل من تأثيرات النزعات الفردية التي هبت على بعض الأنظمة العربية وأصبحت بمثابة نكوص على المبادئ,

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي