مؤسسة عامة لأملاك الدولة
على الرغم من المساحات الشاسعة التي حبا الله تعالى بها المملكة، فإن مشكلة ملكية الأراضي وأسعارها الباهظة تعد العائق الأكبر أمام إقامة أي مشروع عاماً كان أم خاصاً، كبيراً كان أم صغيرا. وقد أفرزت تلك المفارقة سلبيات كثيرة طالت حياة المجتمع بحرمانه من مشروعات هو في أمس الحاجة إليها، إذ عادة ما يفاجأ المواطن بإلغاء مشروع أو تأجيله بسبب وجود ملكيات خاصة في الموقع الذي اختير لإقامة مشروع ما ظناً من الجهة المعنية أن ذلك الموقع هو ملكية عامة. تلك المشكلة تفاقمت في السنوات الأخيرة بسبب التوسع العمراني، و الزيادة الكبيرة في السكان وما تبعها من زيادة في الطلب على الخدمات الضرورية كالصحة، التعليم، والطرق. لذا لم يعد مستغربا أن تطالعنا الصحف بين الحين و الآخر بإعلانات من جهات حكومية تطلب فيها شراء أراض لبناء مرافق لها في المدن والقرى.
وكما هو الحال بالنسبة للمشروعات الحكومية، تواجه المستثمرين من القطاع الخاص المشكلة ذاتها ما يدفع البعض منهم إلى صرف النظر تماما عن إقامة مشروعه لارتفاع تكلفة الأرض مقارنة بعناصر التكلفة الأخرى للمشروع. والحديث هنا ليس عن المشروعات الصناعية فحسب، بل أيضا عن المشروعات الخدمية، الاجتماعية، السياحية، وغيرها. ولنا أن نتصور فرص العمل التي تهدر كلما فرطنا في استثمار جديد وما يعنيه ذلك التفريط من تفاقم في أزمة البطالة و ما يصاحبها من ظواهر وسلوكيات منحرفة تكرس الدولة مليارات الريالات لمكافحتها وتقويمها. بالطبع لم تقف الدولة موقف المتفرج تجاه ملف الأراضي، إذ بادرت قبل نحو 35 عاما إلى تخصيص مساحات كبيرة للصناعات في الجبيل، ينبع، رابغ، وغيرها، وهي خطوة كان لها الفضل، بعد الله تعالى، فيما نشاهده اليوم من قلاع صناعية وفرت الآلاف من الوظائف للمواطنين.
ولم تقتصر معالجة الحكومة لمشكلة الأراضي على تلك المبادرات و ما شابهها، أو التعويضات مقابل نزع ملكيات خاصة تعوق مسار بعض المشروعات، بل أصدرت تنظيمات للمحافظة على أراضي الدولة البيضاء ومنع التعدي عليها، مع تعليمات محددة و دقيقة للبلديات والمحاكم للتقيد بها. لكن يبدو أن تلك التنظيمات في حاجة إلى مراجعة شاملة، ما دعا مجلس الشورى إلى تشكيل لجنة خاصة لدراسة مشروع نظام مراقبة الأراضي الحكومية وإزالة التعديات المقدم من لجنة المياه والمرافق والخدمات العامة في المجلس. وقد جاء في تقرير تلك اللجنة، حسبما ورد في عدد «الاقتصادية» ليوم الثلاثاء الماضي، «أن ظاهرة الاستيلاء على الأراضي الحكومية مشكلة تؤرق الجهات المختصة، رغم صدور عدد من الأوامر السامية وتشكيل لجان لمراقبة الأراضي الحكومية وإزالة التعديات ، وأن ذلك يعود إلى عدم وجود نظام واضح وعادل وشفاف لتوزيع الأراضي الحكومية».
تلك الخطوة من مجلس الشورى تستحق الإشادة والمتابعة، إلا أنها ليست كافية. ذلك أن الأراضي الحكومية ثروة وطنية تشكل أصولا قيمة للدولة والأجيال القادمة ينبغي في المقام الأول المحافظة عليها وتنميتها، لا توزيعها إلا عند الضرورة وفي أضيق الحدود. ومن ثم لابد من أن نخطو خطوة أخرى نحو ذلك الهدف ، إضافة إلى مشروع النظام الذي يعكف المجلس على دراسته، وذلك بتوحيد مسؤولية إدارة أملاك الدولة والإشراف عليها في جهة واحدة سواء ما تشرف عليه حاليا وزارة المالية، وزارة الزراعة، البلديات، أو غيرها. إذ إن إنشاء جهاز مستقل لإدارة تلك الثروة الوطنية الهائلة سيحقق منافع كثيرة للمملكة، من بينها حصر تلك الممتلكات ورصدها في خرائط دقيقة تحول دون أي اعتداءات عليها أو تداخلات مع آخرين في المستقبل. لكن الهدف الأهم لإنشاء ذلك الجهاز هو التعامل مع ملف الأراضي الحكومية كأصول منتجة لابد من تعظيم منافعها للاقتصاد الوطني، وتحقيق إيرادات جديدة على نحو مستدام للخزانة العامة عن طريق تأجير تلك الأصول لسنوات طويلة دون التخلي عنها.
إن إدارة ملف الأراضي الحكومية تتطلب وضع رؤية بعيدة المدى لاحتياجات جميع مناطق المملكة من مرافق خدمية، أمنية، وغيرها وحجز ما تحتاج إليه تلك المرافق من مواقع ومساحات خلال الـ 100 عام القادمة على سبيل المثال. وكذا الشأن بالنسبة للسكن، والمشروعات التجارية، الصناعية، الزراعية، السياحية، وغيرها. إلا أن تلك المهام العريضة لابد لها من جهاز مستقل تملكه الدولة بالكامل لديه صلاحيات وموارد كافية، إضافة إلى مرونة مالية وإدارية تسمح بتقديم خدمات راقية مهنيا ومجدية اقتصاديا. ربما تكون هناك أنماط عدة يمكن الاختيار من بينها لتحديد هوية الجهاز المقترح، أحدها إنشاء مؤسسة أو هيئة عامة مستقلة تشارك في عضوية مجلس إدارتها الجهات المعنية بملف الأراضي كوزارة الداخلية، الشؤون البلدية والقروية، المالية، البترول والثروة المعدنية، الزراعة، وغيرها.
لكن مهما كانت هوية ذلك الجهاز المقترح أو شكله فإن المصلحة تقضي أن يكون تحت إشراف وزير المالية بحكم الاختصاص في الحفاظ على المال العام وإدارته وما للوزارة من خبرة طويلة في الموضوع ذاته.