تطوير برنامج مساكن للمؤسسة العامة للتقاعد

تجابه المجتمع السعودي معضلة الإسكان, التي تركت ما يقارب %62 من الأسر السعودية بلا مأوى تملكه. وتتردد بين الحين والآخر في أوساط المحللين الاقتصاديين وكبار المستثمرين العقاريين أطروحات مختلفة للبدء بردم الفجوة المتنامية من الحاجات للإسكان أمام نقص الإعانات المالية ومحدودية البرامج الإسكانية العامة التي يمكن للدولة تبنيها .. ومن أشهر البرامج الإسكانية التي لقيت رواجا إعلاميا وكادت تعطي بارقة أمل لسد جزء مهم من متطلبات الإسكان لشريحة رئيسة من السكان هم موظفو الدولة والمتقاعدون برنامج (مساكن) للمؤسسة العامة للتقاعد .. لكن هذا البرنامج ما لبث أن تضاءل بصيصه حتى كاد ينطفئ قنديله. وما تقدمه هذه المقالة مقترح لتطوير هذا البرنامج ليشتق على شاكلته برامج بنكية عملية واسعة الانتشار وممكنه التطبيق, لتغطي شرائح واسعة من المواطنين المنتظرين في طوابير الإسكان الطويلة.

برنامج (مساكن) انطلق من المؤسسة العامة للتقاعد وهي مؤسسة مالية حكومية أسست عام 1378هـ, والغرض الأساسي منها هو توفير آلية ادخار إلزامية لموظفي الدولة لهدف ترتيب دخولهم التقاعدية المبكرة (عمل 20 سنة على الأقل) أو دخولهم التقاعدية العادية (بلوغ الستين), وقد يعطى الموظف مبلغا مقطوعا أو مرتبا تقاعديا شهريا مستمرا حسب المدة النظامية التي خدمها وبلوغه سن التقاعد النظامية كما تشمل تعويضات عن إصابات العمل أو الإصابات المعيقة عن العمل .. ويخصم من راتب الموظف الحكومي نسبة معينة يتم ادخارها واستثمارها في صندوق استثمارات وادخارات المؤسسة مع المجموع الكلي لموظفي الدولة .. وقد نمت أرصدة المؤسسة العامة للتقاعد الادخارية والاستثمارية مع مرور السنوات ولكن في الوقت نفسه نمت النفقات الكلية مع ازدياد عدد المتقاعدين وأعداد الموظفين الحكوميين المستحقين لمكافآت التعويض ورواتب التقاعد ومكافأآت نهاية الخدمة، إذ بلغت أعدادهم حتى عام 1428/1429 هـ 465935 متقاعدا بنسبة نمو %6.7 مقارنة بالعام الذي قبله.

هذه المؤسسة العريقة هي من الأهمية بمكان من حيث ترتيب معاشات المتقاعدين بواسطة المدخرات النظامية الإلزامية. وقرينتها المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية (لموظفي القطاع الخاص من المواطنين والمقيمين والمستخدمين والعمال الأجانب) تعتبران مؤسستين تهدفان إلى ترشيد أو ترتيب استخدام الموظفين دخولهم بواسطة التخطيط المستقبلي لادخار واستثمار أجزاء قليلة من هذه الدخول, ويمكن أن تكون هاتان المؤسستان مثالين واقعيين لترتيب وتخطيط وترشيد أجزاء أخرى من دخول الموظفين والعاملين لأغراض كبرى مثل الإسكان - كما أشرنا إلى ذلك في مقالنا عن بنك الإسكان - ولأغراض أخرى, كما للمدخرات التعليمية للأبناء ولأغراض شراء السيارات لرب العائلة وأبنائه وغير ذلك عبر محافظ أو صناديق خاصة أو غيرها.

وقد بادرت المؤسسة العامة للتقاعد في منتصف عام 1427 هـ بتطوير برنامج خاص لتمويل موظفي الدولة والمتقاعدين لغرض تمليكهم المساكن, أطلق عليه (برنامج مساكن). وقد أثار حين إعلانه كثيرا من التفاؤل في أوساط الموظفين والمتقاعدين، ولكن بعد فترة قصيرة من إطلاقه تبين صعوبة تطبيق الشروط التي وضعت على الشريحة المستهدفة من الموظفين والمتقاعدين, إما من حيث انخفاض دخول ومعاشات المتقاعدين وأما بسبب الارتباط بقروض استهلاكية سابقة تعوق الاستفادة من هذا البرنامج, وإما بسبب ارتفاع سن التقاعد أو الموظف على (55 عاما) وإما بشروط المبنى المناسب .. ولذلك فقد استفادت منه حتى الآن أعداد صغيرة لا تكاد تذكر من الموظفين والمتقاعدين (إذ بلغ في عام 1428/1429 هـ 166 شخصا أو أسرة تقريبا, باعتبار أن القرض المتوقع بمتوسط مليون ريال), إن الأولويات هي للاستثمارات في أراض تجارية ومشاريع أبراج وبنايات استثمارية في مواقع استراتيجية من المدن الرئيسة .. وهذا لا تلام عليه المؤسسة العامة للتقاعد, فهي ليست جمعية خيرية تتلمس إيواء المحتاجين للمساكن من المواطنين الموظفين الحكوميين والمتقاعدين غير المقتدرين على سداد قروضهم الإسكانية. ومن هنا فلابد من تطوير برنامج مساكن وأمثاله من برامج الإسكان البنكية أو المالية بحيث يصبح برنامجا استثماريا ناجحا مناسبا لتعاون اقتصادي عادل من المؤسسة العامة للتقاعد وغيرها من المؤسسات المالية والبنكية العامة والخاصة لتوفير المساكن للمواطنين.

ولنطرح في هذه المقالة المختصرة عددا من الخطوط الرئيسية التي يمكن من خلالها تطوير برنامج مساكن عبر إدخال عدة أدوات وأساليب تجعله يحافظ على حقوق المؤسسة من رؤوس الأموال المستثمرة وعوائدها, ويعطي الفرصة لتقديم التمويل لشرائح واسعة من المواطنين الموظفين والمتقاعدين وغيرهم ... ويبتدئ الخط الرئيسي لتطوير البرنامج بتحويل عقوده لتتم من خلال صيغة الإيجار المنتهي بالتمليك حسب الضوابط الشرعية التي أقرها عدد من الهيئات الشرعية البنكية لجعله برنامجا عمليا متوافقا مع الشريعة ... ويتم ذلك عبر شراء المؤسسة العامة للتقاعد المنازل والمساكن وأبراج شقق التمليك التي يختارها المستهدفون من المواطنين أو يتوقع إقبالهم عليها ومن ثم تأجيرها إلى موظفي الدولة والمتقاعدين إيجارا يغطي استرداد رأس المال مع هامش ربح مناسب عليه، وأن يكون الإيجار بدفعة مقدمة وبموجب عقد يلزم المستأجر بالدفع قبل بداية كل سنة من سنوات العقد، ويوكل إلى شركة تخليص ومتابعة وإدارة أملاك تحصيل الإيجارات ، ويتضمن العقد فقرة تنص على وعد بأن يؤول ملك المبنى إلى المستأجر بعد عدد من السنوات يعتمد تحديدها على قيمة القسط وقيمة المبنى أو الفيلا أو الشقة المراد تمليكها ... وإذا لم يلتزم المستأجر الموعود بالتملك بأقساط إيجاره فإن العقد ينص على تأجيل أو إلغاء ميزة الوعد بالتمليك.

هذه الصيغة أو نظيراتها من الصيغ التمويلية المتوافقة مع الشريعة بعد تطويرها وتحديد شروطها ومتطلباتها ستكون مناسبة لتفعيل برنامج (مساكن)، ومن ثم تطوير أمثاله من برامج الإسكان الاستثمارية من قبل الجهات المالية العامة والمؤسسات البنكية الخاصة، وستفتح مثل هذه البرامج آفاقا لردم الهوة والفجوة الإسكانية التي أصبحت تخل بالاستقرار الاجتماعي للمواطنين ... ولا بد أن نشير إلى ميزة أخرى لمثل هذه الصيغ الاستثمارية التمويلية العقارية وهي أنها لا تتطلب حدا أدني من الدخل, ولا كفيلا ولا تحويلا للراتب.و لا تتطلب حدا أعلى من العمر أو السن. ولا تتطلب ترخيصا من شركة (سمة) المالية لصلاحية المستفيدين من ناحية الائتمان.

هذه الخطوط الرئيسة يمكن عرض وتطوير عديد من تفاصيلها ولوائح تطبيقها لتجعل برنامج (مساكن) مثالا يحتذى به لنجاح الدولة والمجتمع في تقديم حلول عملية للسيطرة على أزمة الإسكان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي