العام الجديد: من إفلاس الشركات إلى إفلاس الدول
كان العام الجديد وهو عام 2010 هو الموعد الذي كان يترقبه العالم على أنه العام الذي سيدشن فيه العالم الخروج من أزمته الاقتصادية, ولقد ظهرت مؤشرات اقتصادية كثيرة في عام 2009 م تؤكد قرب انفراج الأزمة والبدء في تعافي اقتصاديات الدول الكبرى، وانعكس هذا الانفراج على حركة الأسواق العالمية وتجاوبت معها أيضا أسعار النفط, فاليوم هناك ثقة أكبر بأن العام الجديد سيشهد تعزيزا لمعدلات النمو الاقتصادي بل هناك من يبشر بأن هذا العام سيشكل الفاصل الزمني للخروج بالكامل من الأزمة الاقتصادية العالمية ويكون عندها العالم قد دخل في مرحلة ما بعد الأزمة. ولكن في المقابل هناك من يحذر من الإفراط في التفاؤل ويقول إن الأزمة الاقتصادية هي أكبر من أن يتجاوزها العالم في هذه المدة الزمنية القصيرة، وإن ما نراه من مؤشرات اقتصادية إيجابية هي قد تكون مؤقتة وإنها نتيجة لخطط الإنقاذ الضخمة والتي خصصت لها أكثر من ترليون ونصف التريليون من الدولارات، وبالتالي علينا أن ننتظر العام الجديد لنرى مدى استمرار هذه المؤشرات الاقتصادية الإيجابية. ففي الأسبوع الماضي فقط أعلنت ستة من البنوك الأمريكية إفلاسها وهذا مؤشر آخر على أن تداعيات الأزمة ما زالت مستمرة. فالخروج من الأزمة سيكون أبطأ مما نتوقع وسيستمر الاقتصاد العالمي - في نظر هؤلاء الخبراء - في النمو البطيء لفترة زمنية طويلة.
لقد كانت هناك عدة أسباب لحدوث الأزمة ولكن كان هناك تداخل في هذه الأسباب بفعل طبيعة الاقتصاد العالمي الذي أنتج هذه الأزمة, ولكن من بين هذه الأسباب وربما كان من أهمها توجه الاستثمارات واهتمام المؤسسات المالية والبنكية بنشاطات استثمارية كان كثير منها نشاطات اقتصادية غير منتجة وإنما هي مجرد مضاربات تعود بأرباح سريعة وبعضها الآخر نشاطات استثمارية فيها نسب مخاطرة عالية جدا. لا بل وصل الإغراء بالأرباح السريعة إلى استدراج حتى البنوك والمؤسسات المالية الكبيرة والعريقة إلى الدخول في هذه المضاربات والاستثمارات غير المنتجة وكأنها قد تخلت هي أيضا عن القواعد الاقتصادية المعروفة. هذه الحالة التي كان عليها الاقتصاد العالمي هو الذي يفسر لنا لجوء بنوك عالمية ومؤسسات اقتصادية إلى الاستثمار عند شخص مثل ماندوف طمعا في الأرباح العالية والمفترض أن البنوك هي المؤسسات الأكثر خبرة في مجال الاستثمار ولكن هذا الاندفاع هو الذي جعلها تصبح هي الأخرى ضحية للاحتيالات والاستثمارات الوهمية. ومثل هذا الأمر ينطبق على دخول الكثير من البنوك في تقديم قروض ضخمة إلى الشركات العقارية في دبي لبناء مشاريع خيالية وهي الآن تواجه مشكلة استرداد أموالها ومواجهة ظروف إعادة جدولة هذه القروض, وما زالت المشكلة في بدايتها والآمال معقودة على تكثيف الجهود لتحجيم هذه المشكلة والتقليل من آثارها السلبية.
ولكن أكثر ما اتسمت به الأزمة الاقتصادية إلى الآن هو تهاوي الشركات وكثرة الشركات المعلنة لإفلاسها, فبالرغم من ضخامة الأموال التي قدمتها الحكومات إلى القطاع البنكي نجد إلى اليوم هناك بنوك تعلن عن إفلاسها وبنوك أخرى تطلب المزيد من المعونات الحكومية لتفادي الوقوع في مصيدة الإفلاس والانهيار. ولم يقتصر الإفلاس على البنوك والمؤسسات المالية فحتى شركات السيارات أعلنت إفلاسها ودخلت في مرحلة إعادة الهيكلة لتخرج لنا شركات في صورة ووضع جديد. وشركات الطيران العالمية هي الأخرى قد سجلت خسائر متلاحقة ولولا التقليل من عدد موظفيها وتخفيض الأجور لأعلنت هي الأخرى عن إفلاسها، والبعض من هذه الشركات لجأت إلى الاندماج مع بعضها تفاديا للوقوع في مصيدة الإفلاس. فنرى شركة الطيران الاسكتلندية تعلن إفلاسها بعد فشل كل المحاولات لإنقاذها وهذه الشركة البريطانية وهي من شركات الطيران العالمية الكبرى تسجل خسائر مالية متلاحقة وتتفق للاندماج مع شركة الطيران الإسبانية، ومن ثم تواجه مشكلة تهديد عمالها بالإضراب في فترة الأعياد مما يزيد من خسائرها المستقبلية، وهذا قد يؤدي إلى عدم ثقة المستثمرين بمستقبل الشركة. فلقد كانت الحكومات في أثناء هذه الأزمة مشغولة بإنقاذ هذه البنوك والشركات ومدها بالأموال اللازمة للوقوف على أرجلها حتى إن المواطن العادي بات يشتكي من هذه الحكومات ويتهمها بأنها تهتم بالأغنياء ولا تلتفت إلى ما يعانيه المواطنون من صعوبات وبطالة وفقدان لمساكنهم, وتبرر الحكومات تصرفاتها بأن إنقاذ هذه البنوك والمؤسسات هو من أجل منع الانهيار الكامل للاقتصاد ولكن على هذه المؤسسات أن ترد هذا الجميل وتقوم بدعم النشاط الاقتصادي وهذا ما ذكره أو ذكر به الرئيس أوباما في اجتماعه الأخير مع مديري البنوك ومطالبته لهم بالمبادرة إلى تقديم القروض وتسهيلها للأفراد والمؤسسات الصغيرة.
وهناك اليوم من يقول إن الأزمة قد دخلت في مرحلتها الثانية وإننا في العام الجديد سنشهد إفلاس الدول مع استمرار إفلاس الشركات. نعم إن هناك دولا كثيرة هي الآن على حافة الإفلاس ويقولون إن السبب وراء هذا هو خطأ السياسات الاقتصادية التي اتبعتها في فترة ما قبل حدوث الأزمة. بل إن البعض من هذه الدول كانت تتصرف مثل البنوك في نفقاتها غير المجدية اقتصاديا حتى إنها تراكمت عليها قروض كبيرة وصلت عند بعض الدول إلى حدود 60 في المائة من إنتاجها القومي وهذا مستوى يهدد بانهيار الاقتصاد كليا. فأولا كانت كثير من هذه الدول تمول نفقاتها بالقروض حتى وصلت إلى هذه المستويات العالية، وعند حدوث الأزمة وجدت هذه الدول نفسها وقد تقلصت مواردها وانكمشت مداخيلها وزيادة على ذلك هي مطالبة بتقديم إعانات لمؤسساتها المنهارة وتقديم محفزات لإنعاش اقتصادها، وأمام كل هذا وجدت هذه الدول نفسها عاجزة عن تسديد قروضها.
فهناك اليوم قائمة تضم العشرات من الدول ومنها دول ينظر إليها على أنها من الدول الاقتصادية الكبيرة والمستقرة اقتصاديا, فدول مثل اليونان وإسبانيا والمكسيك، ودول أخرى غيرها، هي اليوم مثقلة بالديون الكبيرة، وقد تكون هناك حاجة إلى إعداد خطة إنقاذ إقليمية أو في إطار منظمات إقليمية لإنقاذ الوضع في مثل هذه البلدان. إن معظم هذه الدول كان فيها نشاط اقتصادي كبير وبمستويات عالية، ولكنه كان نشاطا اقتصاديا ممولا بقروض كبيرة واليوم تجد هذه الدول نفسها عاجزة عن تسديد هذه الديون. ولعل البعض ينظر إلى الأزمة المالية في دبي على أنها ليست أزمة شركة تواجه تعثرا في تسديد ديونها بقدر ما هي مشكلة الإمارة نفسها وقدرتها على مواجهة أزمتها الاقتصادية المتمثلة بتراكم ديون كبيرة عليها، وهي مشكلة نتجت عن الاستثمار المبالغ فيه في مشاريع عقارية خيالية وهي اليوم متعثرة مع مستقبل غير واضح لها, وأخيرا جاء الإنقاذ من إمارة أبوظبي، ولكن هل جاء هذا الإنقاذ لشركة أم لمساعدة الإمارة نفسها لمواجهة مشكلاتها المالية؟
صحيح أنه من الصعب أن تفلس الدول لأن الدول تراهن على مواردها الكلية ولكن نتيجة لتعاظم الشأن الاقتصادي والعولمة فإن الدول أصبحت مؤسسات وكيانات اقتصادية أكثر مما هي كيانات سياسية، وبالتالي فحالها هو حال الشركات الاقتصادية قد تنهار وقد تعلن إفلاسها وقد يتم الاستحواذ عليها من قبل الدول المدينة لها، كما يستحوذ على الشركات التجارية من قبل الشركات المقرضة لها أو أنها تلجأ إلى الانضمام أو الاتحاد مع دول أخرى لتفادي إعلان إفلاسها. هناك من يرى أن الأزمة الاقتصادية الحالية ستزيد من فرص إفلاس الدول، لأن سياسة معالجة أزمة القروض بالمزيد من القروض كما هو الحال في أمريكا واليابان وبريطانيا ومعالجة الآثار السلبية للإنفاق الزائد بالمزيد من الإنفاق هو في الحقيقة وصفة مؤكدة لإفلاس الدولة, فهل حقا سنشهد في العام الجديد إفلاس بعض الدول كما شهدنا إفلاس الشركات! ولكن السؤال هو كيف سيتعامل العالم مع هذه المشكلة وهل سيصبح البنك الدولي أهم من الأمم المتحدة ومجلس الأمن؟