دور ومسؤولية تنفيذ المشاريع بين وزارة المالية والقطاعات الحكومية

تناولنا في مقالات سابقة وآخرها (العدد 5915 تاريخ 21/12/2009) إدارة المشاريع في القطاعات الحكومية من عدة جوانب. ومن هذه الجوانب عدم وضوح وماهية الأدوار والمسؤوليات في جميع مراحل المشروع : تحديد الأهداف الاستراتيجية – تحديد البرامج لتحقيق الأهداف الاستراتيجية – تحديد المشاريع طويلة وقصيرة الأجل داخل البرامج ـ تحديد أولويات المشاريع بما يتماشى مع توجه الدولة وسياساتها ـ تحديد وتخصيص ميزانيات المشاريع ـ تحديد نطاق عمل المشاريع ـ إعداد وثائق طلب العروض الفنية والمالية ـ طرح المشاريع واستقبال العطاءات ـ تحليل وتقييم العطاءات من الناحيتين الفنية والمالية ـ ترسية المشاريع على المقاول أو الاستشاري ـ تنفيذ المشاريع ـ إدارة ومتابعة وتقييم المشروع أثناء التنفيذ ـ اعتماد الدفعات المالية لمقاول المشروع - اختبار المشروع في مراحله المختلفة ـ تسلم المشروع وصيانة المشروع.
فمن المسؤول عن جميع هذه المراحل المهمة والحيوية وهي 16 مرحلة استراتيجية في حياة أي مشروع؟ هل المسؤول القطاعات الحكومية المعنية أم وزارة المالية ؟ للإجابة عن هذا السؤال الفيصلي سنفترض حالتين: الحالة الأولى: نجاح المشروع والأخرى فشل المشروع, ففي حالة نجاح المشروع فإن جميع الأطراف, وهي في الوضع الحالي القطاعات الحكومية المعنية ووزارة المالية, ستدعي أنها كانت سبباً في نجاح المشروع وظهوره. أما في الحالة الأخرى المتمثلة في فشل المشروع فإن جميع الأطراف سواء كانت القطاعات الحكومية أو وزارة المالية ستتنصل عن مسؤوليتها في فشل المشروع, ويبدأ تبادل التهم, بل إن بعضهم ربما يلقي بالتهم على أطراف أخرى, وقد يصل أحياناً إلى اتهام إدارات سابقة في القطاع نفسه, وبعضهم يعلق الفشل على الظروف الطبيعية والمناخية.
ولعل ما حصل في مدينة جدة من جرف السيول للناس وسياراتهم وممتلكاتهم في الشهر الماضي خير مثال على تداخل وعدم وضوح الأدوار والمسؤوليات في مشاريع القطاعات الحكومية بين القطاعات الحكومية المعنية ووزارة المالية, حيث ثبت عدم تنفيذ مشاريع البنية التحتية بشكل صحيح ومن أهمها مشاريع الصرف الصحي ومشاريع تصريف السيول. وفي حالة جدة رأينا كيف قامت وما زالت الجهات المختلفة تتنصل من مسؤولياتها وتتبادل التهم. فمثلا ترى وزارة المالية أن دورها محدود في تمويل المشاريع وليست مسؤولة عن المراحل الأخرى, خصوصاً تنفيذ ومتابعة المشاريع. ويظل التساؤل قائما: من المسؤول عن فشل مشروع ما؟ أليس هو المسؤول نفسه عن نجاح المشروع؟ وهل وزارة المالية أو القطاعات الحكومية مناسبة ومؤهلة فنياً وبشرياً للقيام بتنفيذ مراحل المشاريع؟ وغيرها من التساؤلات. ومن خلال استعراض وفهم مراحل المشروع الـ 16 تتضح درجة وأهمية التخصص الاستراتيجي والإداري والفني المطلوبة للقيام بمهام المشروع بمراحله المختلفة بمنهجية وطريقة احترافية مقبولة. فهناك حاجة إلى متخصصين وخبراء في مجالات التخطيط الاستراتيجي وإدارة المشاريع. وكما استعرضنا سابقاً, فإن وزارة المالية والجهات الحكومية لا تملك هذه التخصصات, فوزارة المالية تركز على توزيع وتخصيص الميزانية من خلال مفاوضات ومناقشات مع القطاعات الحكومية يغلب عليها الالتزام ببيانات السنوات السابقة وعلاقة وقوة إقناع ممثلي القطاعات الحكومية الشخصية ممثلي وزارة المالية. وهذا غير مبرر, حيث يفترض توزيع وتخصيص الميزانية على المشاريع بناءً على الأهداف الاستراتيجية للدولة وكذلك بوضع وترتيب أولويات المشاريع حسب احتياجات وأولويات الوطن وليس حسب مرئيات واجتهادات شخصية أو جهة حكومية.
ونظراً لأن دور ومهام وزارة المالية كما هو حاصل فعلاً يتركز على عملية إعداد الميزانية وتمويل المشاريع فيفترض وجود جهة أخرى مستقلة ومتخصصة في التخطيط الاستراتيجي وإدارة المشاريع كطرف ثالث يكون مسؤولا عن وضع الأهداف الاستراتيجية وتحديد المشاريع وأولويات المشاريع وتوزيع وتخصيص الموارد المالية المحدودة على المشاريع حسب الأولويات المحددة سلفاً. وهذا الدور المهم في إدارة المشاريع في القطاعات الحكومية غير مفعل بشكل صحيح وقد يفهم بأن وزارة المالية تقوم بأداء هذا الدور حالياً. وإن سلمنا جدلاً بقيام وزارة المالية بهذا الدور فمن الواضح ومن خلال المشاريع السابقة وجود مشكلات في تحديد الأهداف الاستراتيجية وتحديد ماهية وأولويات وتكاليف المشاريع. وهذا يرجع بشكل أساسي إلى أن قدرات وخبرات وزارة المالية مركزة على المجال المالي والمساعدة على إعداد وتقدير الميزانيات, وبالتالي فهي حقيقة تدير خزانة الدولة كما في نماذج مماثلة في دول أخرى متقدمة. والحل الاستراتيجي ـ كما ذكرنا ـ يتمثل في إنشاء هيئة عامة للمشاريع تتبع رئيس مجلس الوزراء تقوم بمهام التخطيط الاستراتيجي وتحديد الأهداف الاستراتيجية وتحديد جدول وخريطة زمنية للمشاريع مع تحديد أولويات المشاريع وتوزيع الميزانية على المشاريع حسب الأهمية والأولوية ومدى تحقيق الأهداف الاستراتيجية للدولة. وهذا الترتيب التنظيمي في وجود هيئة عامة للمشاريع يعمل جنباً إلى جنب مع وزارة المالية و الجهات الحكومية الأخرى بما يضمن تحديد الأدوار والمسؤوليات عن مراحل المشروع المختلفة.
ومن الجوانب الأخرى التي تعرضنا لها قيام الجهات الحكومية بأغلبية (وعملياً كل) مراحل المشروع من تحديد ماهية وأولويات المشاريع وتكاليفها وتنفيذها واختبارها وتسلمها. وقيام الجهة الحكومية بجميع مراحل المشاريع يمثل تجاوزاً وتعارضاً في المهام يؤدي إلى عدم توافر الجودة والحيادية والمراقبة في المشاريع. ومن الناحية الأخرى, وهي الأهم, عدم مناسبة وتوافر التخصصات والخبرات المطلوبة في التخطيط الاستراتيجي وإدارة المشاريع لدى الجهات الحكومية. الجهات الحكومية ليس دورها ولا من مهامها التخطيط الاستراتيجي.
وإذا نظرنا إلى دور إدارات المشاريع في القطاعات الحكومية فإننا نجده مختزلا في التنسيق ومتابعة مستخلصات المقاولين على حساب إدارة المشاريع بشكل احترافي ومنهجي. ويكمن السبب في ذلك في عدم وجود متخصصين في إدارات المشاريع في القطاعات الحكومية, فأغلبية موظفي هذه الإدارات عبارة عن مهندسين حديثي التخرج أو ممن عملوا عدداً من السنوات ولكنهم قطعاً ليسوا متخصصين في إدارة المشاريع, فمجال إدارة المشاريع يعد تخصصاً علمياً قائما بذاته ويدمج بين عدد من التخصصات من أهمها علم الإدارة وعلوم أخرى تحدد حسب نوع المشاريع مثل المشاريع الصناعية والصحية والتعليمية وتقنية المعلومات والمقاولات ويتم تدريسه في الجامعات العالمية من خلال الدراسات العليا سواءً الماجستير أو الدكتوراة.
كما أننا يجب أن نتساءل عن دور ومسؤولية ومهام القطاعات الحكومية: هل هي في تقديم الخدمات للمواطنين أو تنفيذ المشاريع؟ ورغم أن دور ومسؤولية ومهام القطاعات الحكومية يتمثل بشكل أساسي في تقديم أفضل الخدمات للمواطنين إلا أن القطاعات الحكومية تركت وأهملت هذا الجانب وانشغلت عنه وركزت, ولأسباب عديدة, على تنفيذ المشاريع. وسنناقش هذا الموضوع في مقالات قادمة. إن وجود هيئة عامة للمشاريع يعني توفير فريق متخصص وخبير في مجال إدارة المشاريع. وهذا الخيار من شأنه أن يساعد على سد الفجوة التنظيمية الموجودة والقائمة بين وزارة المالية والقطاعات الحكومية مع تحديد واضح للأدوار والمسؤوليات. ويمكن للهيئة العامة للمشاريع لعب دور أساسي واستراتيجي في توفير درجة عالية من الجودة والحيادية والرقابة في مراحل المشاريع المختلفة. كما أن وجود ثلاثة أطراف وهي هيئة المشاريع ووزارة المالية والقطاعات الحكومية يضمن وجود فصل بين المهام المتعارضة في مراحل المشروع المختلفة.
وللحديث بقية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي