بين طريقة «الكلفتة» وقانون «الحصاد»

هل تذكر أيام الدراسة؟ أنا على ثقة بأنك تذكر الكثير من الجميل وغير الجميل عن تلك الأيام السحرية من حياتك. أو ربما تكون تمر بهذه المرحلة الآن وأنت تقرأ هذه السطور.
بسبب سوء تنظيم الوقت، وتأخير الأمور إلى آخر لحظة، يضطر كثير من الطلاب إلى ''الكلفتة''. و''الكلفتة'' في قاموس البطالين هي قراءة المادة كيفما اتفق ومحاولة توقع أسئلة الاختبار وتدارك ما يمكن تداركه ليلة الاختبار. وهذا طبعا في المقابل للدراسة المتأنية والفهم والمراجعة والتدرب قبل الاختبار وهي ''الدراسة الحقيقية''. وقد دلت بعض الدراسات الحديثة أن أكثر من 50 في المائة من الطلاب يعترفون أنهم قد مارسوا ''الكلفتة'' في وقت من أوقات حياتهم، ويقرر 40 في المائة من هؤلاء أنها كانت تجدي وأنها كانت تأتي بنتائج معقولة. كيف يمكن هذا؟ فسر الباحثون الأمر بأحد ثلاثة أشياء: ربما تكون هذه الشريحة من الطلاب الذين تجدي معهم هذه الطريقة في الدراسة هم من التلاميذ المتفوقين ذهنيا أصلا والذين يمتلكون مستوى ذكاء أعلى وذاكرة أقوى تمكنهم أن ينجزوا في ساعات أقل وبشكل غير منظم ما ينجزه الآخرون في أيام وبشكل منظم. ويمكن أيضا أن يكون هناك إشكال في طبيعة المنهج أو طريقة الاختبار التي تجعل هؤلاء يبدون وكأنهم متماثلين لقرنائهم الذين يجتهدون بشكل منتظم. والاحتمال الثالث هو أنهم يكذبون أو يبالغون ويتظاهرون بالذكاء حتي يبرروا سلوكهم الفوضوي وغير المنظم بينما هم في الواقع يبذلون أكثر بكثير مما يعترفون به. وقبل أن أترك هذه النقطة لابد أن أنبه إلى أمرين مهمين حتى لا يغضب علي أولياء الأمور: الأول، أن درجات هؤلاء الطلاب في تلك الدراسة كانت أقل من درجات الطلاب العاديين وأقل بكثير من معدلات الطلاب المتفوقين ولم يكن منهم إلا طالبين حصلا على درجات عالية مما يعني أن هذه الطريقة ''الكلفتة'' قد تنجح في جعلك تتجاوز الاختبار ولكنها لا تنجح في الغالب في جعلك متفوقا. الثاني، أنه وجد أن معدل الضغط النفسي والعصبي المصاحب لهذه الطريقة أعلى بكثير في هؤلاء الطلاب من غيرهم بسبب عامل التوتر والقلق والمخاطرة، وبالتالي فأنا لا أكتب هذا الكلام لأروج لهذه الطريقة في الدراسة.
أكتب هذا الكلام لأبين حقيقة مهمة جدا، وهي أن هذه الطريقة ''الكلفتة'' وإن كانت تنجح في بعض الأحيان مع بعض الطلاب لتجاوز عقبة الاختبار فإنها لا تنجح أبدا في الحصول على أي شيء ذي قيمة في هذه الحياة، وبالأخص في العلاقات الاجتماعية. الكثير منا لا يزال مأسورا بطريقة ''الكلفتة'' لأنها خدمته كثيرا في سنين دراسته الأولى فإنه يتصور أنها ستنفعه الآن مع زوجته وأبنائه والمقربين إليه. إن قضاء ربع ساعة مشغول البال مع أبنائك كل يوم ''كيف المدرسة اليوم حبيبي؟'' لا يمكن بحال أن يؤدي إلى علاقة عميقة بينك وبينهم، وسؤال الزوجة عن حاجات المنزل ''تبون شيء؟'' لن يؤدي إلى علاقة زوجية متميزة. العلاقات الإنسانية لا تجدي معها طريقة ''الكلفتة'' وإنما تحتاج إلى بذل الوقت والجهد. إنها تعمل في المقابل بقانون (الحصاد)، فهل يمكن أن يحصد المزارع محصولا جيدا من غير تجهيز للأرض وبذر وحرث وري ومتابعة وحماية وتوقيت وقطف؟ هل تنفع طريقة ''الكلفتة'' في الزراعة؟
العلاقات الاجتماعية بالمثل، تحتاج إلى بذل الجهد والوقت الكافي حتى تنضج على نار هادئة مع مرور الوقت. إنها تحتاج إلى تفهم عميق واستماع فعال وقضاء وقت مميز. تحتاج إلى تكوين نسيج من التفاهم يغزل مع الوقت وينمو ويتضافر.
كثير منا ينسى هذه السنة الربانية المهمة خاصة مع أقرب الناس إليه. يظن أن زوجته وأولاده، أو والديه، أو أقرب أصدقائه، لا يحتاجون إلى وسائل توطيد العلاقة لأنهم قريبون منه أصلا، وينسى أننا في العلاقات الاجتماعية أشبه ما نكون في طائرة ولسنا في سفينة. ففي الطائرة إذا لم يظل المحرك يعمل بشكل قوي ومستمر لا تبقى الطائرة في مكانها وإنما تسقط إلى الأرض بعكس السفينة التي إذا أطفأت محركها تقف في مكانها وربما تحركها الأمواج. نحن في حاجة إلى تعلم وسائل تقوية العلاقات الخاصة بيننا وبين أقرب الناس إلينا، وأن نمارسها يوميا ونطورها ونضيف أبعادا جديدة عليها. علينا دائما أن نتذكر أن الأشياء المهمة في حياتنا ومن أهمها العلاقات الاجتماعية لا يمكن أن تصل فيها إلى شيء كبير بطريقة ''الكلفتة'' وأنها تخضع فقط لقانون ''الحصاد''.
وقد قال ( بيفيرلي سلز) صادقا ''في الحقيقة، لا يوجد طرق سريعة للوصول إلى أي مكان يستحق الوصول إليه''.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي