دُمية روسيا المتمردة

اقترح الرئيس الشيشاني رمضان قديروف أخيرا على أحمد زكاييف، أحد زعماء المعارضة الشيشانية القومية والمعتدلة نسبياً، أن يعود إلى الشيشان. ولقد وعده قديروف بالعفو عنه ومنحه مناصب تراوح بين مدير المسرح المحلي ووزير الثقافة.
ولقد بدا زاكييف مستعداً لقبول الاقتراح. إذ إن موقفه في المعارضة القومية كان ضعيفاً. ويبدو أن عدد المقاتلين الشيشان الذين ما زالوا يعتبرونه قائداً أو زعيماً بات ضئيلاً للغاية؛ فضلاً عن ذلك فإن آخر محاولاته لإرسال مبعوث لتأسيس وحدة قتالية تحت قيادته المباشرة باءت بالفشل.
وفي الوقت نفسه حافظ زكاييف على علاقاته الودية بالرئيس قديروف، الذي يعترف ضمنياً بإنجازاته - في جعل الشيشان مستقلة عملياً - ومن المفترض أن الكرملين ما كان ليعارض الاتفاق.
لكن رغم أن زكاييف كان واحداً من أكثر أعضاء المقاومة الشيشانية اعتدالاً، فإن العفو عنه كان يتطلب موافقة الكرملين، ويبدو أنه لم يحصل على تلك الموافقة، ولعل ذلك كان السبب الذي جعله يرفض عرض قديروف. ولكن السبب وراء امتناع الكرملين عن منح زكاييف العفو من غير المرجح أن يكون مرتبطاً به شخصياً، بل كان مرتبطاً بقديروف.
كانت عودة زكاييف إلى الشيشان وقد حصل على العفو من شأنها أن تزيد من مهابة قديروف. ولكن الكرملين يريد أن يتجنب هذا الأمر بالتحديد، وذلك بسبب قوة قديروف المتنامية وعدم ارتياح الكرملين عموماً إزاء انتماء مسلم روسي إلى أهل النخبة، في حين أن الاعتراف رسمياً بالسيادة الروسية، يتطلب على نحو متزايد إعادة توزيع القوة داخل الاتحاد الروسي.
أثناء القسم الأعظم من العقدين الماضيين، كان الجهاديون في القوقاز وآسيا الوسطى يشكلون مصدراً رئيساً للقلق والجزع بالنسبة للكرملين. فكان الخوف من «طلبنة» القوقاز وراء إعلان الكرملين أخيرا عن ضرورة حماية المسلمين الروس من الدعاية المتطرفة الآتية من الخارج، وعن ضرورة التحكم في تعليمهم وحياتهم الروحانية من أجل توجيههم بعيداً عن التطرف.
وكان الخوف من التطرف، فضلاً عن زيادة أعمال العنف عموماً، هو السبب الذي أدى إلى صعود نجم عشيرة قديروف عام 2004، حين قرر الكرملين الدخول في عملية «شيشنة» الصراع. وكانت الخطة تقضي ضمناً بأن يمنح الكرملين آل قديروف - أحمد قديروف أولاً، ثم بعد وفاته ابنه رمضان - استقلالاً واسع النطاق (كل شيء باستثناء الانتماء إلى روسيا بالاسم)، فضلاً عن مبالغ هائلة من المال.
وعلى هذا فقد غَضَّ الكرملين الطرف عن عفو قديروف عن المقاتلين السابقين وضمه إياهم إلى وحداته شبه العسكرية. وفي المقابل، كان على قديروف أن يشن حرباً ضد المقاومة الإسلامية الباقية، وبالتالي إزاحة عبء إراقة الدماء الروسية من على كتف الكرملين، أو على الأقل الحد من الخسائر البشرية الروسية.
في مستهل الأمر صادفت هذه الخطة النجاح. وكان بوسع قديروف أن يشكل قوة لا يستهان بها لمكافحة رجال العصابات المسلحة، معتمداً على نفسه أساساً. ونستطيع أيضاً أن ننسب الفضل إلى جهود قديروف في وضع حدٍ للهجمات الإرهابية الرئيسية في قلب روسيا، كتلك الهجمات التي وقعت في موسكو عام 2002 وفي بيسلان عام 2004.
لقد بدا قديروف وكأنه علاج فاعل للجهاديين. ورغم ذلك فإن النتيجة المنطقية للسياسة التي تبناها الكرملين في التعامل مع قديروف تبدو بالضبط وكأنها نفس ما سعى الكرملين إلى منعه - استقلال الشيشان - حين اندفع إلى حرب الشيشان الأولى منذ جيل تقريباً.
فبعد أن تلقى تفويضاً مفتوحاً من الكرملين بالتصرف في الشيشان كما يحلو له، بذل قديروف جهوداً صادقة لتحويل نفسه إلى زعيم شعبي محبوب. من الواضح أنه لم ينجح في خفض مستويات البطالة ولم يعرب عن اعتزامه محاربة الفساد. ولكنه رغم ذلك يستحق أن ننسب إليه الفضل في تحقيق بعض النتائج الملموسة في تقديم حدٍ أدنى من الحياة الطبيعية للشيشان.
كان ترميم وإحياء العاصمة جروزني من بين إنجازاته الواضحة. فقد تحولت جروزني بالكامل إلى خرائب مدمرة أثناء حرب الشيشان الأولى؛ حتى أن المراقبين الروس والدوليين شبهوها بستالينجراد في الحرب العالمية الثانية وافترضوا أن إعادة هذه المدينة إلى الحياة أمر في حكم المستحيل. ورغم ذلك نجح قديروف، بالاستعانة بدعم ضخم من موسكو، في إعادة بناء جروزني وتوفير بعض الأمن لها.
كما نجح قديروف أيضاً في تلبية التطلعات الروحانية لأغلبية أهل الشيشان. فقد رفض البعض ـ الإطار الإيديولوجي للجهاديين. لكنه حافظ على الإسلام باعتباره جزءاً أساسياً من التقاليد الشيشانية وقدم نفسه بوصفه زعيماً يدرك هذه الحقيقة تمام الإدراك. لذا شجع الزي الإسلامي وشيد مسجداً ضخماً ـ واحداً من بين أضخم المساجد في أوروبا، إن لم يكن أضخمها على الإطلاق.
وكان كل ذلك سبباً في حصول قديروف على تأييد واسع النطاق بين عامة الناس في الشيشان. وحتى أولئك الذين لا يحبونه كانوا في بعض الأحيان يقرون بأنه يمثل أفضل الخيارات المتاحة، وأنه نجح في تحسين موقفه بإصراره على استئصال القوات العسكرية الشيشانية غير الخاضعة لقيادته المباشرة. وكان آخر جهد بذله في هذا السياق تصفية كتيبة «فوستوك» رغم أنها كانت تشكل جزءاً أساسياً من الجيش الروسي.
ربما كان من المحتم أن تثير قوة قديروف المتزايدة مخاوف الكرملين، وخاصة بعد أن خلق الكرملين سابقة للانفصال حين اعترف باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في أعقاب حرب 2008 مع جورجياً. لكن السماح بعودة كازييف كان من شأنه أن يزيد الأمور سوءاً بالنسبة إلى الكرملين من خلال زيادة هيبة قديروف في الداخل، فضلاً عن دعم شرعيته وصورته على الصعيد الدولي. وكان هذا من شأنه بالتالي أن يدفع قديروف بعيداً عن السيطرة الروسية في وقت حيث أصبح الكرملين عاجزاً على نحو متزايد، أو ربما عازفاً، عن شراء ولائه.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2009.
www.project-syndicate.org

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي