لماذا تتدهور قيمة مساكننا مع الزمن؟

كنت أبحث عن موضوع لمقالة هذا الأسبوع، واختيار الموضوع وترتيب أفكاره من أصعب المهام التي أواجهها كلما شرعت في الإعداد لكتابة مقالة جديدة. وبينما أنا موجود لحضور أحد اجتماعات العمل الدورية أخذت أفكر في موضوع لمقالة هذا الأسبوع، فإذا بجاري في الاجتماع يسألني - ونحن ننتظر اكتمال نصاب الحضور لعقد الاجتماع -: لماذا تنخفض أسعار مساكننا مع الزمن، بينما ترتفع أسعار المساكن في كثير من دول العالم؟ فقلت لنفسي - في الحال -: هذا موضوع المقال قد ساقه الله إليك سؤالاً على لسان هذا الزميل، ووعدته بأن يقرأ الإجابة في زاوية «حلول إسكانية» لهذا الأسبوع.
يعود تراجع أسعار مساكننا وانخفاض قيمتها مع الزمن إلى ثلاثة أسباب رئيسة. يتعلق السبب الأول منها: بسوء تنفيذ المساكن خلال السنوات الأولى من تقديم قروض صندوق التنمية العقارية وسهولة الحصول عليها؛ فنظراً لرغبة كثير من المواطنين في الحصول على قروض الصندوق والاستفادة منها في بناء المساكن وإنهائها بأسرع وقت ممكن؛ ازدادت كثافة أعمال بناء المساكن، وتزامنت مع قلة خبرة المستفيدين من الصندوق بأمور البناء، وجهل غالبيتهم بأساسياتها، ونظراً لضعف سوق الإنشاءات وعدم قدرتها على الوفاء بحجم الطلب المتزايد، حيث إن العمالة الماهرة والمتخصصة لم تكن متوافرة بالشكل الكافي، كما أن المقاولين المتمرسين كانوا في حكم الندرة؛ لذا أصبح المجال مفتوحاً لأن يتحول كل عامل إلى نجار أو حداد أو كهربائي أو سباك أو «مليس» أو مبلط أو دهان، بل تحول كثير منهم في يوم وليلة إلى مقاولين وحصلوا - بدون مبالغة - على عقود لتنفيذ العشرات من الفيلات. فكانت النتيجة الحتمية لكل ما سبق - ولا سيما مع انعدام أي نوع من الإشراف أو الرقابة من قبل الصندوق أو الأمانات والبلديات - أن تظهر مساكن ذات جودة منخفضة من جميع النواحي الإنشائية والتقنية والجمالية، وأن تتدهور وتظهر مشكلاتها مع الأيام، وتنخفض – من ثم - قيمتها، وترسخ - نتيجة لذلك - لدى كثير القناعة بحتمية انخفاض قيمة المساكن مع الزمن.
أما السبب الثاني فيعود إلى أن الدعم الحكومي من خلال منح الأراضي و/أو قروض الصندوق قد حوَّل المواطنين إلى مطورين فرديين (كما سبق إيضاحه)، واستمر العمل بالتطوير الفردي للمساكن حتى مع الذين لم يحصلوا على الدعم الحكومي، وذلك نتيجة لممارسات تخطيط الأراضي السكنية وبيعها على الأفراد. وعلى الرغم من زيادة ثقافة المجتمع بأعمال البناء والتشييد وتوفر المقاولين والعمالة الماهرة؛ إلا أن التطوير الفردي للمساكن - وفي غياب الكود الموحد للبناء - يلقي عبئاً كبيراً على عاتق المالك من الناحية المالية، وكذلك الإجرائية والفنية القائمة على المتابعة والإشراف. وإذا تمكن المالك من تخطي مشكلة توفير السيولة اللازمة لإكمال بناء المسكن بالجودة المناسبة، ولم يضطر إلى التغاضي عن الجودة مقابل خفض التكلفة؛ فإنه لا يسلم من المشكلات الإجرائية والفنية، وما يلزم لها من متابعة وإشراف، والتي لا يجد - في الغالب - الوقت الكافي للقيام بها، كما أنه ليس خبيراً بها، فتقع نتيجة لذلك كثير من الأخطاء التنفيذية، خصوصاً في الأعمال غير الظاهرة للعيان، بموافقة المالك وبعلمه في بعض الأحيان، وبالغش والخداع في أكثر الأحيان. ومن أبرز الأخطاء المتسببة في الأضرار بمبنى المسكن وأكثرها شيوعاً استخدام مواد العزل المائي الرديئة أو سوء تنفيذ أعمالها في السطح والمطابخ والحمامات. ويعد الإهمال في تنفيذها على الوجه السليم، واختبارها بالأساليب الصحيحة للتأكد من جودة تنفيذها، وحمايتها والحفاظ عليها من التعرض للتلف بعد تنفيذها؛ من المهام الصعبة التي تتطلب معرفة ومتابعة وجهداً إشرافياً مكثفاً من المالك، ويؤدي سوء تنفيذها إلى عدد من التأثيرات السلبية التي تعمل على تدهور المسكن بشكل سريع، وتدهور قيمته مع الزمن.
أما السبب الثالث والأخير: فيعود إلى النمو المتسارع للمدن السعودية، واستمرار انتقال فئة من السكان من أحيائهم إلى أحياء أحدث، وهو ما يعمل على تدهور الأحياء السابقة وتدني أسعار المساكن بها. ويعود سبب استمرار التنقل من حي إلى آخر إما إلى الخصائص الاجتماعية والاقتصادية لسكان الحي، ومدى عناية الجهات البلدية والخدمية بتحسين بيئته، أو إلى أن تطوير البيئة العمرانية للحي وتوفير المرافق والخدمات به لم يتزامنا مع تطوير المساكن، أو لأن تطوير الحي بالأسلوب الفردي يؤخر من اكتمال بناء جميع المساكن حتى عشرات السنين، فيفقد الحي بعض خصائصه أو تتغير استعمالاته قبل اكتماله. كما أن عدم نشوء نماذج معمارية للمسكن السعودي المعاصر ذات خصائص «سعودية وطنية» مشتركة في المكونات والشكل والتكوين والمظهر الخارجي وغيرها من الخصائص؛ جعل عدداً من السكان يتتبعون «موضة» تصميم المساكن وتنفيذها، وهو ما يدفع بهم إلى هجر مساكنهم القديمة والانتقال إلى مساكن حديثة في أحياء جديدة. ويؤدي هجر السكان لأحيائهم إلى تغيير خصائصها واستعمالاتها، فقد تتحول إلى مناطق سكن للعمال أو مكاتب للشركات والمؤسسات، وهو ما يؤدي - من ثم - إلى تدهور الحي وتدهور أسعار المساكن فيه.
وأخيراً، فإن ظاهرة تدني أسعار المساكن مع الزمن في طريقها إلى التلاشي بسبب تحسن جودة المساكن وقلة المعروض.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي