الكوادر البنكية والاحتراف

تأسس أول بنك سعودي عام 1926 ببدايات متواضعة اعتمادا على كوادر أجنبية، وفي ذلك الوقت لم يكن (البنك المركزي) مؤسسة النقد العربي السعودي قد وجدت بعد. حتى بعد إنشاء المؤسسة فقد كانت تدار بواسطة كوادر أجنبية حتى تولى عبد العزيز القريشي زمام إدارة المؤسسة عام 1974 كأول سعودي يقود القطاع المالي في السعودية. ومع مرور الوقت وبقيادة واعية وحكمة بالغة من ولاة الأمر والقائمين على مؤسسة النقد، ترعرع ونما القطاع المصرفي بكل ثبات. بالطبع الطريق ليس ممهدا بالورد، بل هناك عقبات، أهمها الكوادر البشرية القادرة على قيادة هذا القطاع الحساس, فالكوادر البشرية تعد أهم عنصر في القطاع المصرفي لأنها تدير الثروات وتشرف على مبالغ هائلة سواء كانت حكومية أو خاصة. ومع طرح البنوك للاكتتاب العام ودخول الأفراد مساهمين في ملكية البنوك تعاظمت المسؤولية لأن إدارة البنوك زاد ثقل أمانتها, فهي لا تدير أموال فئة محدودة أو أموالا حكومية, بل تدير أملاكا تعود ملكيتها إلى مساهمين متعددين.
رغم كمية التفاؤل المحيطة بالجو العام للبنوك إلا أن هناك ما يستدعي القلق, فلا تزال بعض الإدارات القانونية في البنوك تدار من قبل كفاءات أجنبية ليست مؤهلة لإدارة تلك الإدارات الحساسة في أي بنك, فهي الإدارة المعنية بتوجيه دفة قيادة البنك، ومع هذا بعض الإدارات القانونية لا تزال ترزح تحت وطأة عقدة الأجنبي مهما كانت كفاءته.. يروي أحد الأصدقاء، وهو محام متخصص في القضايا المالية، قصة أسردها باختصار تدل على أنه لا يزال أمامنا طريق طويل عسير لتحرير البنوك من عقدة الأجنبي ولتدريب الكفاءات السعودية لتصل إلى المستوى المحترف المنشود، خاصة أن القطاع المالي قطاع حساس يقوم عليه أي اقتصاد!
يقول المحامي إن أحد بنوكنا قام وبلا تردد بإغراء أحد عملائه بشراء سندات مالية مهيكلة صادرة عن أحد البنوك الخارجية (الذي يملك حصة كبيرة في هذا البنك السعودي - وهذا موضوع يستحق التعليق في مقالة مستقلة)، إلا أن هـذه السندات ليست كأي سندات عادية، بل هي سندات مهيكلة مربوطة بسلة من المؤسسات المالية عددها سبع ومن ضمنها مؤسسات مالية أعلنت إفلاسها لاحقا. الغريب أن البنك نصح عميله بشراء هذه السندات المهترئة في عز الأزمة المالية! والمحزن أن البنك ـ المفترض فيه - أنه يعلم أن هذا النوع من السندات هو الأخطر على الإطلاق، بل مصرح في نشرة الإصدار الخاصة بهذه السندات الملغومة بأنه في حالة إفلاس, أي من المؤسسات المالية الموجودة ضمن السلة في هذه السندات فإن الدفعات المالية المستحقة بناء على هذه السندات تتوقف, وأنه على حملة السندات الانتظار حتى الانتهاء من إجراءات الإفلاس وأنهم في آخر قائمة المدينين! خطورة مرتفعة جدا, ومع ذلك نصح البنك عميله ''غير المحترف'' بشرائها, بل بالدخول بكل مدخراته في هذه السندات مخالفا أهم مبادئ قوانين الأوراق المالية, وهو مبدأ الملاءمة, ومبدأ اعرف عميلك! تتعاظم المصيبة إذا عرفنا أيضا أن هذا النوع من السندات بيع استنادا إلى أحكام ''الطرح الخاص'' ما يعني أنه يجب ألا يعرض ولا يباع ذلك النوع من السندات إلا للمستثمرين ''ذوي الخبرة'' أو ''المحترفين''، وهذا مصطلح قانوني يعرف المتخصصون ماذا يرمز إليه، وحتما لا ينطبق على صاحبنا في هذه القضية! وعلى الرغم من النص على ذلك صراحة في نشرة الإصدار الخاصة بهذه السندات، إلا أن هذا البنك السعودي تجاهل هذه القوانين ـ أو أنه لم يكن يعرفها أصلا - وباع لعميله هذه السندات! ولأن القوانين المنظمة لمثل هذه الاستثمارات لم تتخلق من فراغ بل لأجل حماية هؤلاء، فقد ''طاح الفأس بالرأس'' وخسر هذا المستثمر ''البسيط'' مدخرات 40 عاما من العمل قبل أن يتقاعد أخيرا. وبسبب عدم احترافية موظفي البنك فقد العميل مدخراته التي بلغت الملايين ولم يبق منها اليوم سوى مئات الآلاف! تملص البنك من مسؤوليته وحمل العميل وزر هذا القرار الاستثماري، متنصلا من دوره ومسؤوليته النظامية.
بحسب وصف محامي المستثمر، حيث يقول: حاولنا الاجتماع مع المسؤولين عن الشؤون القانونية في هذا البنك وصدمنا بأنهم لا يعرفون ماذا يعني المستثمر المحترف أو الخبير، ولم يكن بينا لغة مشتركة يفهمها الطرفان, بل كانت لغة الغرور والعنجهية بلكنة أجنبية هي المسيطرة على طاولة الحوار. بالطبع سيصل الموضوع إلى القضاء للفصل في تلك القضية الواضحة وضوح الشمس, لكن الشاهد في الموضوع كله هو جهل أكبر مسؤول قانوني في بنك سعودي بموضوعات الاستثمارات الخطرة أو الاحترافية وعدم إدراكه آخر الأنظمة السعودية، في دلالة عميقة على عدم الاكتراث وضعف الإحساس بالمسؤولية تجاه المساهمين وتجاه اقتصاد البلد وتجاه عملاء البنك.
إن القطاع المصرفي عصب اقتصاد أي بلد, وإن لم يكن أبناء البلد المهرة هم من يشرف على إدارة تفاصيله فالمغامرة ـ بل المقامرة - مرتفعة جدا. الأجنبي في نهاية المطاف الموضوع بالنسبة إليه مجرد استثمار مؤقت ثم يعود أدراجه إلى دولته. لا أبخسهم حقهم، لكن كثير منهم ليسوا أكفاء ولم يتسنموا مناصبهم ويستمروا فيها إلا بسبب شهادة ''عقدة'' الأجنبي المسيطرة على أذهان البعض التي مكنتهم من البقاء رغم عدم توافر الحدود الأدنى المؤهلة لهم. أعتقد أنها وصمة غير مشجعة أن نكون منذ 1926 نراوح في المكان ذاته عاجزين عن تطوير وصقل مهارات أكثر الأماكن حساسية في أشد القطاعات الاقتصادية أهمية. الآن، الكرة في مرمى مؤسسة النقد لإلزام البنوك بالسعودة الكاملة القيادية وليس ''الديكورية'', والمدربة، بلا تفاوض أو تنازل، مع تدريب واختبارات مستمرة لضمان استمرار أداء عجلة القطاع المصرفي بوتيرة مرتفعة وبصحة عالية. يا سادة، بدلا من التركيز على الخادمات والسائقين أظنه من الأهم بمراحل التركيز على تلك المخابئ المفصلية في اقتصادنا ذات الآثار المنسكبة في شرايين الاقتصاد بكل ملامحه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي