حكمة ملك
في الأسبوع الماضي كان للمواطنين والمقيمين في المملكة موعد مع وقفة تاريخية من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في إدارة أزمة كارثة السيول التي اجتاحت مدينة «جدة»، إثر هطول أمطار متوسطة، وأخذت معها أرواحا بريئة مُخلفة وراءها دمارا هائلا في المساكن والممتلكات الخاصة إلى جانب ما حل من أضرار وخسائر بالمرافق العامة من طرق وجسور، شبكات كهرباء ومياه، مستشفيات، وغيرها. إذ صدر يوم الإثنين الموافق 13/12/1430هـ أمر ملكي عبّر فيه الملك - حفظه الله - عن ألمه الشديد لما حدث, وأكد عزمه على محاسبة من يثبت تقصيرهم بعد تقصي الحقائق من قبل لجنة رفيعة المستوى برئاسة أمير منطقة مكة المكرمة.
لم يكن شق المساءلة والمحاسبة في الأمر الملكي الجانب الوحيد الذي شفى الصدور، بل كان هناك أيضا الجانب الإنساني الذي يتربع دائما على أولويات الملك في التعامل مع كل نازلة أينما كانت في أصقاع هذه المعمورة فما بالكم بإخوانه وأبنائه في جدة، بوابة الحرمين الشريفين. إذ على الرغم من أن لجنة التحقيق قد كُلفت برفع تقريرها بما تتوصل إليه من تحقيقات ونتائج وتوصيات «بشكل عاجل جداً»، لم يشأ ملك الإنسانية ليده الحانية أن تتأخر لحظة واحدة عن تضميد الجروح وتطييب القلوب فأمر وزارة المالية بصرف مبلغ مليون ريال حالاً، لذوي كل شهيد غرق.
وكعادته، حفظه الله، فقد اختار خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في إدارة تلك الأزمة المنهج الذي سار عليه السلف الصالح إذ إنه «لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، لين من غير ضعف وشدة من غير عنف». فبينما علت أصوات كثير من الناس في المجتمع وتنادوا عبر وسائل الإعلام المختلفة مطالبين التعجيل بعقوبات رادعة ضد جهات حكومية وأسماء بعينها لمسؤولين سابقين وحاليين فيها، جنح الملك إلى المسار العلمي المنهجي لكشف الحقائق وتوثيق النتائج كي تطمئن كل الأطراف على حقوقها ومساواتها أمام العدالة. تلك الحكمة من الملك ستضع الأمور في نصابها الصحيح إذ قد يتكشف من التحقيقات تورط جهات لم تكن أصلا على البال ولم يشر إليها في كل ما قرأناه أو سمعناه في الآونة الأخيرة في وسائل الإعلام على كثرة ما قيل أو كتب في الموضوع ذاته. ومن ثم عندما تصبح الصورة مكتملة يمكن وضع معالجة للمشكلة من جذورها.
وفي سياق طرح مقترحات لحلول دائمة للتعامل مع مشكلتي الصرف الصحي وتصريف مياه الأمطار في جدة، قد يجرؤ المرء على القول إنه مهما كانت نتائج التحقيقات فإن استمرار العمل بالأسلوب الجاري نفسه، حيث تتبعثر المسؤولية، لن يكون مجديا، وهو ما أثبتته تجارب الـ30 عاما الماضية على الرغم من ضخامة المبالغ التي قيل إنها رصدت لكل من المشروعين، وكذلك على الرغم من تناوب أكثر من مسؤول على أمانة جدة ومصلحة المياه والصرف الصحي التي باتت إدارة مرتبطة بوزارة المياه والكهرباء بعد أن كانت تتمتع بشيء من الاستقلالية.
لقد سبق أن واجهت المملكة أزمات طاحنة في بعض مرافق الخدمات العامة وتم التعامل معها بآليات أثمرت عن فك تلك الاختناقات بعد تشخيص دقيق لأسبابها. من بين تلك الآليات التي يمكن النظر فيها الآن ومحاكاتها هي دمج مسؤولية إنشاء (وليس إدارة وتشغيل) شبكتي الصرف الصحي وتصريف الأمطار في محافظة جدة في ملف واحد يسند إلى شخص يرتبط مباشرة بخادم الحرمين الشريفين رئيس مجلس الوزراء الملك عبد الله بن عبد العزيز وإلزامه بممارسة شفافية كاملة عن كل صغيرة وكبيرة في عمله. ولئلا يضاف جهاز إداري جديد إلى مؤسسات الدولة وما تترتب عليه من أعباء مالية لا مبرر لها، يفترض أن ينتهي دور ذلك المسؤول باستكمال شبكتي الصرف والتصريف وتسليم كل منهما للجهة المعنية بها أصلا لإدارتها وتشغيلها. هناك خيارات عدة، بلا شك، للتعامل مع قضية المجاري والأمطار في جدة أحسب أنها ليست غائبة عن نظر اللجنة المكلفة بالتحقيق في تداعيات «فاجعة الأربعاء»، وفي كل الأحوال فإننا على يقين بوعد المولى الكريم «سيجعل الله بعد عسر يسرا».