إيران.. ليست على قلب مرشد واحد!!
موزييك طبقي وقومي وديني واسع النطاق تعيشه إيران، واختلافات وقوى ليست على قلب مرشد واحد، شيعة وسنة عرب وبلوش وآذر وأكراد وأزبك وكل له رؤاه في إيران الدولة والسلطة والمنهج السياسي، وكل له أدواته وإمكاناته وآلياته وأتباعه، يعمل على تعزيزها وتمكينها داخليا وخارجيا، والحكومة هي أضعف حلقاتها، صراعات مبطنة وأجنحة مختلفة وتأهب لاقتناص الفرص، وعسكرة الدولة والمجتمع محصلة لضعف المؤسسة، ونتيجة لسياسة الاتجاه الواحد، القائمة على لجم التيارات السياسية والاجتماعية والإثنية والقومية وقوى المجتمع المدني، وما حدث من مواجهات أخيرا ليس سوى فاصل وفالق زلزالي كامن يمكن أن يثور في لحظة من اللحظات.
أمام هذا الواقع الاجتماعي السياسي، تتجسد السياسة الإيرانية الداخلية والخارجية بمعايير مختلفة، العسكرة واستخدام القوة والتذرع بالعداء الخارجي، ووجود مشكلات مع المجتمع الدولي، وإدامة التوترات الإقليمية، وغياب الوضوح السياسي مع الدول المشكلة للإقليم، ومعارضة سياسية داخلية وخارجية، بعضها على علاقة قوية بالمصالح الغربية، وهناك معارضة لها حقوق قومية بعضها انفصالي والآخر يطالب بحقوق وامتيازات وخصوصية، وشوفينية قومية مغلفة بالتدين ونطاق وفضاء إسلامي للنفوذ، واستخدام التشيع كمطية لربط مواطنين في بلدانهم بالمرشد الأعلى ولتصبح قم هي المرجعية الروحية والسياسية، ولتتحكم قم بالخمس ولتعمل على إنشاء فواصل نفسية واجتماعية بين مواطنين مطمئنين في بلدانهم بحكم الوصاية الجديدة للولي الفقيه.
النسيج الإيراني متنوع ومختلف وغير متجانس ولم تسع الدولة الإيرانية عبر تاريخها السياسي لبناء تنظيمات تهدف إلى صهر هذه القوميات في إطار سياسي عام يحفظ لكل قومية مصالحها في إطار الدولة الإيرانية الواحدة المترامية الأطراف، وأسهم في تعزيز صدام الهويات والإثنيات ضعف القدرة السياسية على الاستيعاب، والريبة والشك في التفاعل القومي، حيث بدأت عوامل الردة الداخلية تتجه باستمرار للتناقض مع المركز السياسي.
ازداد هذا التناقض حدة في ظل الجمهورية الإسلامية التي صادرت الحقوق القومية ونبذتها وتجاهلتها على الرغم من اعترافها من الناحية الدستورية بالتنوع الثقافي واللغوي والتراثي للمجتمع الإيراني وعلى هذا الأساس يشير الباحث الإيراني عباس ولي إلى أن الدستور الإيراني تقصد تجاهل المحتوى السياسي لتلك الهويات ومنع قيام أي تمايز أيديولوجي قومي يتمايز عن الأيديولوجية القائمة رسميا على اعتبار أن ذلك يهدد سيادة النظام الديني.
تاريخيا كان التنوع الثقافي في إيران تعبيرا عن قيمة حضارية وإنسانية ورافدا حيويا للدولة والمجتمع وتعبيرا عن تعايش وتجانس رغم الاختلاف، وشهدت إيران في هذه الفترة ازدهارا أدبيا وثقافيا، انعكس بالضرورة على سلوكها السياسي الداخلي والخارجي، فوجود المثقفين والأدباء والاهتمام بهم أسهم في تشكل ملامح سياسية أكثر رقيا وتحضرا في التعامل الداخلي والخارجي، فكان ثمة حضور نوعي لإيران في المحافل الثقافية والأدبية العالمية آنذاك، أما الآن فلا.
مع قيام الثورة الإيرانية عام 1979 اختلفت المنهجية المتبعة وبات المثقفون والفنانون والأدباء في إيران في حالة خواء أو خروج عن المألوف السياسي الجديد، حيث غادر عدد كبير من شعراء وأدباء ومثقفي إيران إلى الخارج والعديد منهم أصبح جزءا فاعلا في قوى المعارضة الإيرانية، ما جعل المعارضة أكثر تسامحا في استيعاب قوة ذات حضور وتأثير ثقافي وأدبي نوعي، لا تملكه الدولة الجديدة، حيث قدر عدد البوابات الإلكترونية الموجهة التي يعمل من خلالها المثقفون والادباء الإيرانيون بأكثر من400 بوابة إلكترونية يطل عليها المواطن الإيراني، رغم عمليات الحجب المتعددة التي تقوم بها الدائرة الثقافية في الحرس الثوري، والهدف الإبقاء على تنميط ثقافي وسياسي وديني واحد، وعدم السماح مع أي اختلاف مهما كان موضوعه.
وزاد الطين بلة أن هذا الحرمان الرسمي للحقوق القومية تبعته عملية حرمان سياسية واقتصادية شاملة لعديد من أبناء القوميات الإيرانية، ما أسهم في تعزيز الانتماءات القومية لديهم وتقاطعهم مع السياسة الرسمية والاختلاف معها، وأيضا أفرز هذا الحرمان شريحة كبيرة من العاطلين عن العمل بسبب إقفال الأبواب أمامهم، ما أسهم في تعظيم حالات التناقض لتبصح عملا مؤسسيا وأحيانا كثيرة كانت القوميات تتوافق وتتفاهم على مطالب سياسية وحقوقية عامة لكنها ومع ذلك كانت تقابل بالصد وإن تمت الاستجابة لبعض المطالب كالتمثيل البرلماني مثلا كان هذا التمثيل غير واقعي ولا يعبر عن الحجم الحقيقي لهذه القوميات ولا يلبي طموحاتها كما أن الممثلين لهذه الفئات لا يملكون القدرة للتحدث بأسماء هذه القوميات، لكن الأمر ليس إلا عبارة عن تمثيل شكلي يؤكد أن هناك سياسة ثابتة تهدف إلى الحرمان والتذويب.
فإن النسيج الداخلي الإيراني يتكون من المجموعات الإثنية التالية: أولاً، الإثنية الفارسية، وهي التي تهيمن بشكل كبير على المؤسسة السياسية. ثانياً، الإثنية الآذرية التي تشترك مع النظام الحالي في المذهب الديني وتسيطر بشكل ملحوظ على الأسواق التجارية (البازار) رغم اختلافها معه من الناحية القومية، حيث يرى الآذريون أنهم الأحق بالسلطة كون إسماعيل الصفوي هو من من أعلن التشيع مذهبا للدولة الصفوية ورغم أن دورهم مقتصر الآن على الجانب الاقتصادي إلا أنهم يشعرون بأنهم مستهدفون من الناحية الثقافية والسياسية ومغيبون نهائيا عن أروقة الدولة. ثالثاً، الإثنية الكردية التي تنتشر في شمال غربي إيران، أو ما يطلق عليها بكردستان الشرقية. رابعاً، الإثنية العربية التي تعيش في ولاية عربستان، وأهم مدنها أهواز والمحمرة وعبادان وفي أجزاء من الساحل الشرقي للخليج العربي. خامساً، الإثنية التركمانية التي ينتشر أفرادها في ولاية تركمانستان الجنوبية سادساً، البلوشية في مناطق كرمان وزاهدان. إضافة إلى مجموعات قبلية مستقلة تتوزع ولاءاتها بين القوميات الفارسية والآذرية والكردية، مثل البختيارية واللور والقشقائية، وتشكل القومية الفارسية 40 في المائة من مجموع السكان والآذريون بنحو 30 في المائة والأكراد نحو 9 في المائة والعرب 4 في المائة والبلوش 2 في المائة والمجموعات القبلية الأخرى بنحو 2 في المائة.
وظل الأكراد باعتبارهم يكونون جسما رئيسا في المعادلة القومية ويطمحون تاريخيا إلى إقامة دولة مستقلة وحصلت بينهم والدولة المركزية حروب عديدة، ويعد الأكراد ما مجموعة ثمانية ملايين نسمة يشكل الشيعة منه 25 في المائة ما دفع بالأكراد إلى إعلان جمهورية مستقلة عاصمتها مدينة مهاباد في عام 1946 إلا أن الدولة تعاملت معها بقوة وأصبحت تحسب لها حسابا وخاصة أن الوجود التركي ممتد في العراق وتركيا وسورية ولذلك عارضت إيران باستمرار إمكانية قيادم دولة قومية للأكراد.
ورغم حالات التهميش العديدة إلا أن إيران لم تقو على إذابة المجتمع الكردي المختلف ثقافيا عن إيران الفارسية، فظلت عاداته وتقاليده وتراثه حاضرة ما اضطر الدولة المركزية للاعتراف به على مضض، لكن هذا لم يمنع أو يحول من الصدامات بين الطرفين واتهام عديد منهم على التعاون مع تركيا وحدثت عوامل شغب كثيرة ومطالبات بالاستقلال. يشار إلى أن الأكراد أنفسهم يتهمون الأجهزة الأمنية الإيرانية بالمسؤولية عن اغتيال الزعيمين الكرديين الإيرانيين الدكتور عبد الرحمن قاسملو في العاصمة النمساوية فيينا عام 1989 والدكتور سعيد شرفكندي في برلين الألمانية عام 1992.
وفي عربستان العربية هناك عرب سنة وشيعة يتجاوز تعدادهم عشرة ملايين نسمة ولكن عاداتهم وثقافتهم عربية ومازالوا يحتفظون بتراثهم الثقافي، ورغم أن هناك قسوة بالغة يتعرض لها العرب في إيران وتضييقا كبيرا وعمليات إذابة ممنهجة واعتقالات وتعذيب ومحاولات لطمس الهوية، وتغيير الملامح الطوبغرافية والديموغرافية لمنطقة عربستان، حيث تعمل الحكومة الإيرانية ومنذ عام 2005 على جعل العرب أقلية في منطقة عربستان ليصلوا إلى 30 في المائة رغم أنهم يشكلون ما نسبته 70 في المائة.
وتشترك إثنيات مثل التركمان في شمال إيران وقوميات تابعة لدولة قائمة كالتركمان والبلوش المتاخمة لحدود باكستان وأفغانستان والغالبية العظمى منهم يتبعون المذهب السني وهناك الأزبك في الشمال الشرقي، ونظرا للسياسة الإيرانية القائمة على التعارض والتنوع القومي الإيراني وعدم منحه جانبا من حقوقه فإن هذه القوميات على صلات وعلاقات قوية مع قومياتها في تلك الدول ولو من باب اقتصادي.
العبث السياسي في الأمن الإيراني ممكن ومتاح وفي هذا المضمار تبرع المخابرات الأمريكية والمصالح الغربية في التعاون وقوى رئيسة ذات تأثير واضح في الواقع السياسي الإيراني، وهذه القوى لم تعد خارج الحدود وإنما باتت في بيت المرشد وتكاد أن تقوض السلطة التي تتنازعها عدة أذرع وتختلف فيما بينها حول آليات التعامل الإداري والسياسي ولعل حركة مهدي كروبي، آية الله حسين علي منتظري، محمد أبطحي، محمد خاتمي، مير حسين موسوي والخلافات بين المرشد، ورافسنجاني وغيرها من الخلافات المعلنة التي ترشح على السطح ليست إلا تعبيرا عن حالة غليان داخلية ضاغطة على صناعة القرار السياسي الأمني الداخلي والخارجي.
لانشكك إذا قلنا إن هناك فئات داخل إيران تهدف إلى تعزيز حالات الصدام بين إيران والعالم الخارجي وبخاصة ودول الجوار وأن هذه الفئات لها مصالحها وتناقضاتها مع السلطة المركزية وأنها تهدف إلى تقليص القبضة الإيرانية الأمنية وجرها إلى حروب خارجية، وأن بعضها مازال مؤمنا بتصدير الثورة وهذا ما أكده سابقا الدكتور علي شمس الدين أردكاني مساعد وزير الخارجية «هناك من يعملون ويتحدثون عن تصدير الثورة، لكنهم لا يعبرون عن الثورة، لكنهم يمثلون خطأ داخل خط الثورة» كتاب إيران من الداخل فهمي هويدي، وأيضا فإن أطرافا في حكومة أحمدي نجاد اليوم تفاجأ بحجم هذه القوى وتخريبها للعلاقات الدبلوماسية مع دول عربية وإسلامية، لكن وكما قلنا في البداية الحكومة الإيرانية في هذا الوقت بالذات في أضعف حالاتها وإن هذه القوى تستقوي مستفيدة من ضعف الحكومة وضعف المرشد.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل هناك مشروع دولي جاهز لتفتيت إيران؟ وهل القوميات التي لم تندمج أو لم تتح لها الفرصة بالاندماج تتطلع نحو تحقيق الاستقلال أو الاندماج مع قومياتها في دول مجاورة؟ من يسعى للاستفادة من حالة الضعف تلك والتخبط السياسي والضغط الدولي بسبب الملف النووي؟ وهل بمقدور القيادة الإيرانية التراجع عن أهدافها في البرنامج النووي وهي تدرك أن التراجع يمثل فرصة ذهبية لزيادة حدة الصراع الداخلي؟
علينا ألا نتعامل مع إيران كوحدة واحدة، ففيها مناطق ضعف كثيرة، وهناك قوى دينية وأمنية وعسكرية تتفاعل داخليا وخارجيا وهي على خلاف مع الحكومة والمرجعية، وعلينا أن نميز بين الفعل الحكومي الرسمي الفعل الخاص بفئات محسوبة على المرشد، لكن لها رؤية مختلفة جدا عما هو مطروح اليوم، فهناك قوة دينية إيرانية تتوالد من نسل الثورة لكنها تختلف في منهجيتها وآلياتها وتهدف إلى استعادة قيم الثورة الحقيقية بمفهومهم والتي تربط بين المصالح القومية والفضاء الديني.