أصابت حيث أخطأت

تجلب اللغة العربية لأصحابها المتاعب، وغالبا ما كانت هذه المتاعب بسبب ضعف استعمالها في جانب، أو الجهل بها في جانب آخر، لكن من يصهل بها دائما، يشعرك بأنه واقف على حد الهوية، يمنحك بروحيته تلك معنى خاصا، حتى وإن كان في أبواب الفكاهة والنقد المستتر. ضغوط كبيرة تعرض لها الدكتور عبد الله الطيب الأديب السوداني، أثناء رحلة تدريسه في جامعة الخرطوم، وكان الطيب كما يقول عنه معارضوه إنه يحمل دماغ «خواجات»، أي أنه لا يقبل إلا «الصح» في العمل الجامعي، حيث رفض تدخل الحكومة أو التسلح بالعلاقة معها مهما كانت قوية، وفرض هيبة خاصة للتعليم الجامعي، ما ضاعف من معارضيه، أمثال الدكتور محمد الشوش.
فصل الطيب من الجامعة، رغم أنه عمل فيها بكل قوة، وأسس لمعالم جامعية حقيقية، لكن وشايات من زملاء المهنة، ممن كان لهم رأي مخالف لطريقته في الإدارة، كانت كفيلة بإخراجه من الجامعة، وكان الطيب يشعر بالمرارة مما جرى، حيث يفصل ذو الكفاءة والمهنية العالية، لصالح كفاءات لم ترتق بعد إلى مستواه.
غالبية كبيرة من المثقفين والنخب السودانية متزوجة من «خواجيات»، أي إنجليزيات، فالطيب صالح متزوج من إنجليزية، وكذلك عبد الله الطيب، والشوش، إذا لم تخني الذاكرة.. وكثير منهم يفضل لندن للمعارضة، أو الاحتجاج، بدءا من حسن الترابي وصولا إلى الميرغني، لكن عبد الله الطيب أراد أن يقدم لبلده شيئا مفيدا، حيث أصبحت جامعة الخرطوم في ظله على توأمة مع أعرق الجامعات الإنجليزية.
عاد الطيب إلى بيته وكان الناس يؤمون منزله ويواسونه مما جرى وأنه أكبر من القرار الحكومي، وأنه سيعود رغما عنها إلى عرينه، وكانت زوجته تتكلم «العربية» على الطريقة الفصيحة، التي علمها إياها الطيب، لكنها عربية مكسرة، وبينما الناس يشدون من أزره أرادت زوجته أيضا أن تدلي بدلوها، فقالت، والله إن ما حدث ليس إلا نيا.. بك وكانت تقصد «نكاية بك»، فضحك الطيب قائلا: أصابت الأعجمية حيث أخطأت. وعلى هذا المنوال يقال إن أحد أساتذة «العربية» الكبار طلب إليه بعد تقاعده العمل مديرا في دائرة الأحوال المدنية في دولة عربية وكان هذا الأستاذ معروفا عنه تحدثه بلغة عربية فصيحة ولا يقبل التحدث خلافا لذلك مهما كانت الأسباب، وفي نهاية الدوام الرسمي تقدم إليه شاب بدوي لا يفقه إليه استصدار جواز السفر، فما إن تقدم منه بالسؤال قائلا «ودي جواز» حتى كانت الإجابة «لك أنت .. اذهب يابني واجلب لي طلبا معبأ حسب الأصول». وكان في القرية شيخ اسمه طلب فما كان من صاحب الجواز إلا أن أتى الشيخ طلب الذي بادره بالسؤال «هاه سويت جواز» فرد عليه «لله يا شيخ يبونك تيجي يمهم»، الشيخ «وش حكالك» «حكالي جيب طلب» فرد الشيخ «العفو لله إصدار جواز يلزم حضور الشيخ طلب، وش ها المدير الأعوج».
لم يذهب الشيخ طلب إلى المدير، بل إلى مدير عام الجوازات قائلا له «ما ودنا هالمدير يلي حاطه إذا كل جواز سفر راح يصدر يلزم حضوري أقولك فصلي مكتب وطاولة خلني أداوم عندكم»، حاول المدير العام إقناع الشيخ طلب بأن المقصود بالطلب هو النموذج المعلوماتي، إلا أنه أبى إلا أن يرحل المدير ويأتى بغيره وهذا ما كان. ويذكر لنا الشاعر سليمان عويس وهو مسيحي الديانة وكان مدرسا للعربية وشاعرا بالعربية الفصيحة وبالنبطي، أنه طلب إليه العمل في الإمارات نهاية الستينيات أي قبل الاستقلال، وأنه حزم حقائبه وسافر إلى هناك مدرسا ومشرفا للغة العربية، وعويس من النوع العشري وفيه بداوة لا تجعلك تشك أنه مسيحي قط، ويضيف عويس أنه وفي إحدى المرات سمع إمام أحد المساجد قد أخطأ مرتين، الأولى في الأذان والأخرى في القرآن، وبعد انتهاء الصلاة التقاه قائلا له عن الأخطاء التي وقع فيها وما إن عرف الشيخ أنه معلم ومشرف اللغة العربية في التربية حتى طلب إليه الأذان في المسجد لا بل طلب إليه أن يستعد لخطبة الجمعة القادمة، ويقول كنت خائفا أن أصرح بديانتي وكنت لا أرغب في أن أؤذن وأنا مسيحي فتوكلت على الله ليلا ونطقت بالشهادتين وذهبت في الفجر لأؤذن بالناس وأؤمهم في الصلاة فصرت مسلما رغما عني بسبب اللغة العربية، وما إن انتهى الأسبوع حتى طلبت نقلي إلى مكان آخر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي