لماذا فشلت إدارات المؤسسات في التنبؤ بالأزمة المالية؟
تعد ثقافة المؤسسة أحد أهم التحديات التي تؤثر في تنفيذ مناهج شاملة للمخاطر، فتعزيز ثقافة إدارة المخاطر هو أكثر التحديات التي واجهت البشرية منذ أمد بعيد, وإن برزت أهميتها بشكل أكبر أخيرا, وبعد أن أثبت البناء الفلسفي لمنظومة الهرم الاقتصادي الكلاسيكي الحديث فشله في كثير من التوقعات الاقتصادية التي هي على غرار التنبؤ بالأزمة الحالية, وفشل أيضا في الحد من تداعياتها, فقد يكون التداخل والتشابك غير المسبوقين في أسواق المال والعملات والسلع سببين أساسيين في ضعف الأدوات التقليدية في التأثير في المتغيرات الكلية للأسواق, بعد أن اتضح أن الفشل في معــالجـــة مسائل إدارة المخــاطر أسهم بشكلٍ كبير في أزمة الائتمان العالمية الحالية, وبعد أن نظر كثير من المحللين إلى المخاطرة وكأنها مجرد عارض مكروه رافق القيام بالعمل ينبغي السعي إلى السيطرة عليه حيثما كان ذلك ممكنا, إلا أن هذه الطريقة نبعت من منظور تبسيطي ظاهريّ للمخاطرة, بينما الحقيقة هي أنّ بعض المخاطر ينبغي تقليصها وبعضها الآخر ينبغي اجتثاثها من الجذور حتى لا تنموّ. القضية المهمة يجب ألا نخلط بين مفهوم المخاطرة ومفهوم الخطر, فالمخاطر المالية شيء محمود أما الخطر فشيء مذموم، فهذا الخلط يولد شعورا داخليا بالنفور من المخاطرة المالية, وهذا الخلط هو أول أسباب الفشل في إدارة المخاطر, وبعد أن أدت أزمة الائتمان العالمية الحالية إلى فقدان مئات من المليارات من الدولارات من قيمة الأصول ضمن قطاع الخدمات المالية فقد أصبح الموضوع أكثر خطورة واستحق البحث والدراسة وتوظيف الرساميل والخبراء لجعله تحت السيطرة, الأزمة الاقتصادية التي غدت أكثر سوءا هذا العام ولم تتمكن أي دولة من الإفلات من تبعاتها جعلت المبادرة إلى التحقق منها أمرا حتميا, فممارسات إدارات المخاطر بشكلٍ مفصل من حيث أسعار السلع الأولية والزيادة الحادة في تكلفة الاقتراض الخارجي وهروب الرساميل من الأسواق الناشئة الذي جعل من الوضع الاقتصادي أكثر صعوبة, خصوصا للدول النامية والفقيرة, التي دخل كثير منها منطقة الخطر الاقتصادي واكتوى فقراؤها بلهيب الأزمة, وقذف بأكثر من 160 مليون شخص في الدول النامية إلى هوة الفقر وأكثر من مليار شخص عاشوا حالة الجوع, وذلك حسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة العالمية FAO, وحيث عادة ما تنشأ المخاطر المالية من خلال العمليات ذات الطبيعية المالية المتضمنة للبيع والشراء والاستثمار والقروض ومختلف نشاطات الأعمال الأخرى أو قد تنشأ نتيجة لتعامل قانوني أو مشروع جديد أو عملية اندماج أو من خلال أنشطة الإدارة والمساهمين والمنافسين. عندما تقل الربحية نتيجة ارتفاع الأسعار وازدياد التكلفة تنشأ المخاطر بشكل قوي وتزداد العمليات الداخلية والأخطاء في أعمال الموظفين, خصوصا في صفوف متخذي القرار كأخطاء الإدارات العليا أو أخطاء واضعي الأنظمة واللوائح والسياسات والخطط والتقنيين أو المحاسبين, كل ذلك يجب أن يدفع المؤسسات إلى إعادة النظر في ممارسات إدارة المخاطر التي تبنتها في وقت سابق من أجل أن تزيد ليس من حرفيتها فقط بل من بعد نظرها ورجاحة عقلها. ومن أهم العراقيل التي أعاقت تطور ممارسات إدارة المخاطر بشكل فاعل هي إمكانية الوصول إلى الحقيقة التي ستقع لا محالة أو ربما الحصول عليها إلهاما أو مناما, وحيث من الصعوبة تبنيها إذا حصلت هكذا في شركات مادية صرفة تعتمد على التدقيق المالي للبيانات وأخذ الحساب لكل رقم وكأنه قنبلة موقوتة, تلك الإدارة التقليدية ركزت على المخاطر الناتجة عن أسباب مادية أو قانونية كالكوارث الطبيعية والحرائق أو الدعاوى القضائية, في حين أكدت المميزات التي وفرتها أن الفشل في معالجة مسائل إدارة المخاطر أسهم بشكلٍ كبير في أزمة الائتمان العالمية الحالية وتوجب على الجميع نقد ممارسات إدارة المخاطر هذه في مختلف المؤسسات المالية وذلك لما احتوت عليه من لغط محاسبي تارة وركون إلى الواقع تارة أخرى, أي الانشغال بما هو متاح في وقت الرفاه والرخاء وعدم الحساب لما تخبئه الأيام من عواقب, وهي مسلكيات إدارية كافرة وضيقة الأفق وضعت حسابا للوقت الراهن فقط. إدارة المخاطر مع الأسف وإن كانت جزءا مهما من إدارة الأزمات, فقد بدأت تشغيل فكرها بعد وقوع الأزمة وكان من المفترض أن تبدأ قبل وقوعها وقبل احتدام الخطر لأن هدفها المعلوم هو أن تحول دون وقوع الخطر باعتباره حدثا كامنا واحتمال حدوثه ضعيف ولا يقع إلا في أوقات الأزمات والتخطيط له عادة ما يكون مكلفا. لذلك يجب الاعتراف بأن جميع البنوك والشركات لم تتمكن من وضع استرتيجية واضحة لها في إدارة المخاطر تقوم بالقياس والتقييم والتطوير لجميع فروع إداراتها وأقسامها أو أن توظف خبراء وإخصائيين لن يكلفوها سوى مبالغ زهيدة بحثا عن تقليل المخاطر وتجنبها وتقليل احتمال حدوثها. وعلى الرغم من وجود مخاطر واضحة المعالم كانت احتمالية وقوعها 100 في المائة إلا أنه تم تجاهلها وذلك بسبب الافتقار إلى مقدرة التعرف عليها وغياب الموظف المختص, ولكي يتم الحصول على منافع المخاطرة ينبغي على الإدارات العليا توسيع منظورها الفكري, فبدل الانحصار في المخاطر المالية أو التشغيليّة أو حوادث الغش والسرقات والزلازل, يجب أن تهدف أعمالها إلى تخفيف آثار المخاطرة أو تحويلها بعيداً عن الشركة كممارسات التحوّط « تقليل حجم المخاطر التي يتعرض لها الفرد أو المستثمر أو الشركة» والرقابات الداخليّة والتأمين. تنويع المخاطرات المالية هو أفضل الطرق لتقليل الخسائر الإجمالية للاستثمارات والمشاريع وهو تنويع للمحافظ المالية والاستثمارية بصورة أو بأخرى, المنطقة العربية والخليجية منها على وجه التحديد يجب أن تشهد ارتفاعاً ملحوظاً في مبادرات إدارة المخاطر ضمن الشركات والبنوك الإقليمية. القضية الأخرى التي أود مناقشتها وهي ليست خروجا عن التحليل المالي المادي العصري بل هي استطراد وتأكيد وهي من صلب موروثنا التاريخي والديني, وهي النموذج التخطيطي للموارد الطبيعية وقت الشح وكيفية التكيف مع أوقات الكساد أو القحط والعبور إلى بر الأمان حتى تعيد الموارد الطبيعية تدفقها وفق الحاجات البشرية الفعلية إليها, ذلك النموذج الذي قدمه النبي يوسف ـ عليه السلام ـ بعد رؤية تحذيرية رآها الملك تنذر بسبع سنوات عجاف ستضن فيها الموارد الطبيعية بإدرار ثمارها, ففي تلك الحالة لم يقدم النبي يوسف ـ عليه السلام ـ تأويله للرؤيا فقط بشكل نظري إنما تم تنفيذ عمليات متكاملة منتظمة ومدروسة على أرض الواقع وتخزين الحبوب أثناء فترة الرخاء وادخار معظمها للاستهلاك في وقت القحط المرتقب، فنصح قومه بأكل جزء مما يزرعون وادخار الجزء الآخر للسنوات العجاف, كما كانت هناك عملية توزيع منظمة لتلك الحبوب قبل أزمة القحط وأثنائها بشكل دقيق وعادل حتى انتهت الأزمة ذات السنوات السبع بصورة مرضية لم يكن أحد يتوقعها, فكيف استطاع الملك أو الفرعون المصري «إخناتون» بمساعدة النبي يوسف ـ عليه السلام ـ أن يجنب شعبه ويلات أزمة اقتصادية وقحطا مؤكدين عبر حلم مجرد أو رؤية بينما عجز اقتصاديو القرن الـ 21 قاطبة عن التنبؤ بأزمة مالية محدودة نسبيا, لولا ضيق أفق التحليل المالي العصري وعجز البنوك التقليدية عن أن توفر حلولا ملائمة سوى الارتهان إلى الذرة والإلكترون. ألا يجب أن يجعل ذلك من المسلمين يطالبون بوجود مزيد من البنوك الإسلامية ما دامت متفقة ومكملة لرسالة الأنبياء جميعا, والمتوقع لها أن تكون بالمستوى ذاته من النقاء والشفافية والقوة في التحليل والحدس انسجاما مع الحديث الشريف: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بعين الله», لذلك ليس إجحافا أبدا أن نطالب بأن يستحوذ الاقتصاد الإسلامي على معطيات الاهتمام الحالي في الساحة المالية العالمية وفي مجال إدارة المخاطر على وجه الخصوص أو قد يكون في مجالات أخرى لا يتسع المقام لتبيانها. من هذا المنطلق يجب أن يبعث موضوع التمويل الإسلامي, وأن كثرة المنادين بذلك لا تضعف من أهمية الموضوع بل تقويه, ذلك لأنه يتمتع برؤية صائبة وبجدارة عملية وغيبية معا, علاوة على مزاياه ومنهجيته وقوانينه ونظرياته المانعة للتراخي الدنيوي وضيق الأفق, كما أن سياساته الضريبية والائتمانية والنقدية ما زال لها تأثير قوي, فمثلا طرح الأموال لا بد أن يكون له ضمان بأصول حقيقية من أجل ألا يكون المستقبل معتما, فإدارة المخاطر الإسلامية تؤكد تعزيز الخدمات المالية للأفراد والشركات على أساس العدالة في عالم أعمال لا يوجد فيه أدنى تطلع إلى العدالة, بل إن الحديث عنها أصبح منكرا. النظم المالية الإسلامية التي فندت نظام المشتقات المالية أو قيام البنوك ببيع الديون أو المتاجرة بها باعتبارها مخالفة شرعية لأنها بيع ما لا يملك هي وريثة النبي يوسف ـ عليه السلام ـ في التأويل والحكمة وفصل الخطاب, فهل عرفنا لماذا فشلت إدارات المؤسسات والمخاطر التقليدية في التنبؤ بالأزمة المالية الحالية - «يأيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون».