الخدمة المدنية وتطلعات العاملين فيها
في ظل التنمية الاقتصادية والعمرانية والبشرية ودعم القطاع الخاص وإنشاء الهيئات الاستثمارية والسياحية وهيئات الخدمات والمرافق وما صاحب ذلك من تطوير لكثير من أنظمة تلك الهيئات واستحداث أنظمة ومعايير قادرة على جذب الكفاءات التي تحقق أهدافها. هذا التوجه المبارك والمتميز لجميع تلك الهيئات ومحاولتها الخروج عن عباءة وزارة الخدمة المدنية وأنظمتها التي لم تتغير منذ عقود, وإن تغيرت فإنها لا تخدم القطاع الحكومي ومتطلباته للمنافسة مع بقية القطاعات, وإن كان قد حدث تطوير متميز للقطاع الخاص والقطاع المالي فإن قطاع التعليم العالي, أو ما يسمي القطاع الأكاديمي تطور هو أيضاً من خلال فتح آفاق أوسع لتطوير كفاءاته ودعمها المادي الذي يحقق ما تسعي إليه من رفع قدراتها التعليمية والبحثية.
القطاع الأكاديمي كان يعد الرئة التي يحاول القطاع الحكومي التنفس من خلالها, وذلك بالاستعانة بالكفاءات الأكاديمية للعمل في القطاع الحكومي أو تقديم الاستشارات الفردية وفق نظام الإعارة أو عدم التفرغ, هذه الرئة لم يعد القطاع الحكومي قادرا على الاستعانة بها بسبب التغير المبارك الذي حدث في مكافآت وامتيازات أعضاء هيئة التدريس حيث تضاعفت خلال الفترة البسيطة الماضية أكثر من 100 في المائة, وبهذا أصبح القطاع الحكومي غير مغر للقطاع الأكاديمي وأصبح القطاعان الأكاديمي والخاص غير راغبين في العمل في القطاع الحكومي.
الظاهرة المزعجة حالياً أن القطاع الحكومي أصبح غير جاذب للكفاءات, وإنما - ومع الأسف الشديد - أصبح طاردا لها, وإذا استمر الوضع على ما هو عليه الآن سنجد أن القطاع الحكومي عبارة عن مجموعة من العاملين غير المنتجين أقرب ما يمكن تسميتهم (مستحقي الضمان الاجتماعي أو الشؤون الاجتماعية) مجموعة عاطلين برواتب شهرية يحملون ميزانية الدولة مليارات الريالات دون فائدة تذكر.
خطورة تحول المؤسسة الحكومية أو القطاع الحكومي إلى ضمان اجتماعي أنه يؤدي إلى البيروقراطية والترهل والفساد بحيث تصبح الأعمال والمشاريع وقفا على مسؤولي الأجهزة الحكومية تتم ترسيتها عليهم أو على أسرهم ثم يتم بيع المشروع من الباطن بـ 50 في المائة من قيمته ثم ينتقل إلى باطن آخر بنسبة 50 في المائة إلى أن يصل مرحلة الباطل بحيث يتم تنفيذ المشروع بأقل من 15 في المائة من قيمته. وهذا يشمل مشاريع الصيانة والإدارة والتشغيل وغيرها من المشاريع التي نعرف جميعاً اليوم أنه تم رصد مليارات الريالات لها ولكنها لم تر النور, وربما لن تراه أبداً بسبب هذا الفساد الإداري نتيجة هجرة الكفاءات الإدارية والفنية من القطاع الحكومي إلى القطاعات الأخرى وعجز القطاع الحكومي عن تعويضهم, هذه الهجرة نتجت عن الجفوة من القطاع الحكومي, والإحباط الذي يصيب البقية الباقية التي تحاول إصلاحه يأتي بسبب الأنظمة الجامدة للخدمة المدنية لأسباب عديدة من أهمها أن هيكل الرواتب لم يتغير منذ أكثر من ثلث قرن, إضافة إلى إلغاء عديد من الامتيازات والحوافز بسبب الوضع المالي والاقتصادي في منتصف الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي, الذي استمر حتى وقتنا الحاضر .
إن المتأمل لأنظمة الخدمة المدنية وبيروقراطية إجراءاتها وضعف وغياب حوافزها وعدم قدرتها على مواكبة التغيرات المحلية والإقليمية والعالمية يعي خطورة هذه المرحلة وأهمية الالتفات الصادق والقوي لتقويمها وتقديم الحلول والمقترحات التي تجعل من نظام العمل الحكومي نظاما حديثا ومتطورا يتواكب مع التطورات التنموية والإدارية والفنية التي تعيشها المملكة في أغلبية قطاعاتها ويعيشها العالم بشكل عام.
المملكة العربية السعودية اليوم لا تحتاج إلى جيوش الموظفين العاملين في قطاعها الحكومي ممن لا ينتجون كما يجب أن يكون الإنتاج والإبداع ويستهلكون كل شيء من الميزانية العامة إلى الميزانيات التنموية ثم الرواتب والكهرباء والمياه والشاي والقهوة والجرائد إلى آخر القائمة المعروفة للكبير والصغير. هذا الاستهلاك الذي إذا لم تتم معالجته بنظرة شاملة متمكنة قادرة على تشخيص حقيقة الوضع ووضع الحلول الحازمة والمعالجة للخلل فإننا سننتهي بقطاع ـ كما ذكرت سابقاً وأؤكده في كل مناسبة ـ مترهل وبيروقراطي وفساد وأنه طارد للكفاءات، يخدم من يسرقه ويتحايل عليه ولا يخدم من يخدمه، ولعل نماذج بعض الدول المحيطة بنا في قطاعاتها العامة ما يؤكد ما ذكر من ترهل وفساد, والخطورة أن القطاع الحكومي قطاع ضروري لقيادة بقية القطاعات الممثلة للدولة من خاص وأكاديمي وإعلامي وخيري, فإذا كان القطاع المأمول منه قيادة بقية القطاعات غير قادر على إصلاح وتطوير نفسه فإنه من باب أولى لن يكون قادرا على تطوير القطاعات الأخرى, بل ربما يؤدي إلى تأخرها وتخلفها وفسادها.
وقفة تأمل
''لا يستقيم الظل والعود أعوج'' .