السمات الباعثة للرقي الحضاري لدينا .. ولكن!
منذ فترة استهواني موضوع البحث في الأسباب الباعثة للتنمية والرقي الحضاري لدى عدد من الأمم التي حققت معدلات فاقت مثيلاتها وكون هذه الأسباب متجذرة في عمق البناء الثقافي والتكويني للأمة، حيث إنها ليست أسبابا حادثة بفعل قسري حكومي المصدر، أو ناتج عن تكوين محصول مكتسب من استعمار أمم أخرى والتسلط عليها، الأسباب التي كنت أبحث عنها هي تلك التي تتعلق بالسمات الجماعية لتلك الأمم، والتي تتضافر لتكون قوة دافعة للتنمية، تلك الأسباب ليس لها علاقة بما لدى الأمة من موارد أو مخزون ثروات طبيعية، وإن كان لها علاقة بأسلوب استخدام تلك الأمة لتلك الثروات، وكنت أتساءل هل لدينا نحن كأمة عربية هذه الأسباب أو بعض منها لنطمئن على مسيرة بنائنا التنموي عندما لا يعود لدينا ما نبيعه من مخزوناتنا الطبيعية؟
الإنسان كائن اجتماعي يحقق النمو والترقي في معيشته وبنائه الحضاري، من خلال منظومته الاجتماعية التي تتضافر جهودها في محصلة نشاطات متسقة ومتجانسة ومتكاملة فتكون الحضارة المستدامة، والنشاطات التي يقوم بها الإنسان في الأمة الحضارية مؤسسة على منهجية تدفعها الرغبة والقصد في الهدف وتحكمها المعرفة والمهارة وتهذبها القيم الذاتية، ولو قدرنا أن جميع الأمم يتوافر لدى أفرادها الرغبة والمعرفة والمهارة والقيم المهذبة، فهل لنا حتماً أن نفترض أن تلك الأمم ستتساوى في المكتسب الحضاري بتضافر جهود أفرادها؟ هذا الافتراض ربما يبدو للوهلة الأولى ساذجاً، حيث يبدو أنه يستبعد أثر العملية التنظيمية للمجتمع، والمتمثلة في العدالة في توزيع الأعباء والعوائد والقدرة الحكومية على تأسيس منهجية النمو وعملية الضبط القانوني والتشريعي وتنفيذه، غير أن المتعمق يجد أن تلك هي ضمن النشاطات الإنسانية المؤسسة لمجمل العملية الحضارية في الأمة، لذا فعوداً على أن الافتراض ذاته هو ما بنيت عليه تصوري في بحث أسباب تطور الأمم.
اخترت أن أبحث في تطور الأمة الأمريكية لحداثة تكوينها التاريخي وعظم مكتسبها الحضاري، والأمة الألمانية لتوسطها العالم الأوروبي الذي أسس الحضارة الحديثة، والأمة اليابانية التي انقلبت على مكونها الحضاري العتيق المليء بالخرافات والأوهام، وأصبحت ثاني أكبر اقتصاد في الأرض. هذه الأمم الثلاث تمثل نخبة منتقاة بناء على الموقع الجغرافي، وهي ليست من الدول التي كونت ثروة بصورة واضحة بفعل استعمار الأمم الأخرى، فعدا اليابان لم يكن لأي من الأمتين الأمريكية والألمانية مكاسب استعمارية تذكر، واليابان كانت مكاسبها الاستعمارية ضئيلة بحجم ما تكبدته من حروب، لذا فاختياري كان مبنيا على حقيقة أن هذه الأمم بنت كياناتها الحضارية على الجهود البشرية لأفرادها. ولن أسوق في هذا المقال التبريرات التي على أساسها اخترت هذه الأمم ففي ذلك إطالة وجلب لملل القارئ، كما أني لن أعرج على تفصيل المعايير التي بها أعرف النمو الحضاري ومستندي البحثي لذلك، فهدف هذا المقال هو إيضاح مفهوم أن النمو الحضاري مبني على مكونات ثقافية نفسية تختزنها الأمم في تراثها التحصيلي من المعيشة والتصارع مع قوى الطبيعة. ولكن لتتضح الصورة بصورة معقولة أقول إن المعايير الحضارية التي بها أقيم المكتسبات الحضارية لأمة متحضرة هي التالي:
. التأثير في مجريات السياسات الأممية.
. الترتيب الأممي لمجمل الناتج القومي.
. مجمل حركة النقل الجوي للمسافرين من وإلى وخلال.
. كمية المنتج الثقافي للأمة سنوياً المكتوب والمصور والمسجل ''ويشمل التدوين والأفلام والموسيقى''.
. عدد براءات الاختراع المسجلة باسم الأمة.
. متوسط المدى العمري للسكان.
. متوسط التحصيل التعليمي للسكان.
. عدد مرات التحول السياسي بين التيارات المختلفة بحد أدنى من الخلاف.
. القدرة على استيعاب التوجهات الثقافية المتنوعة والمتضادة ضمن ثقافة انتماء واحدة.
. قدرة المجتمع على تكوين وحماية بيئة معيشية صحية جذابة ومحققة لخدمات نوعية.
وبتطبيق هذه المعايير على الأمم المختارة تبين لي أنها من أفضل الأمم في تكوينها المكتسب الحضاري وأن كلا منها قد تميزت بصفة أبرزتها بين الأمم حيث تبدو الأمة الأمريكية أمة من المغامرين المشغوفين بالاكتشاف والتجديد، والأمة الألمانية أمة جادة في العمل والإتقان وصلابة القصد، والأمة اليابانية أمة منهمكة في تطوير التقنيات التطبيقية الذكية المسخرة لخدمة البشر بحجوم صغيرة. هذه التعميمات لتلك الأمم والتي تمثل معرفاتها لدى باقي شعوب الأرض لم تأت من فراغ فهي محصلة سمات تكونت بفعل التفاعل الثقافي والمعيشي لتلك الأمم، وبالبحث تبين أن هناك سمات لمجتمعات هذه الأمم اشتركت في بعضها، وتفاضلت في بعضها ولكن الملاحظ أن السمات التي تماثلت فيها كانت كلها سمات ذهنية مبنية على القيم السامية للمجتمع. وقد صنفت هذه القيم على النحو التالي:
قيم اعتقادية
تكونت من المختزن الروحي للمجتمع وتمثلت في صورة أسس تقوم عليها عقيدة المجتمع وهي الصدق، العدل، العطف، الالتزام، والمسؤولية.
قيم شعورية
وهي قيم تكونت عن شعور الإنسان بذاته وقدرته على تكوين قيمة اجتماعية له وهي الاعتمادية الذاتية، الكرم، التضحية، الفخر، الإصرار، الانضباط.
قيم فنية
وهي قيم تكونت عن شعور الإنسان بالمتعة وقدرته على تكوين محيط جاذب للتناغم وهي الإتقان، الغرور، التشجيع، الإبداع.
هذه القيم الإيجابية غنية عن الشرح والتعريف وهي سائدة في تلك المجتمعات المتحضرة وإن كانت تختلف بين طبقات وفئات المجتمع من حيث الحضور والغياب إلا أنها واضحة في الحضور في ثقافة وممارسة المجتمع، فهي الدافع لكثير من السلوكيات الاجتماعية فحين يلتزم الموظف في جهاز حكومي بالتفاني بخدمة مواطن فهو يشغل تلك القيم في ذهنه وهو يؤدي عمله بحيث تكون هي المحرك لسلوكياته وهي كذلك عندما يتفانى الطبيب في جراحة دقيقة تستلزم الجهد والتركيز وهي كذلك عندما يتقاضى متخاصمان أمام القاضي، إذا هي ما يقود تصرفات المجتمع أفراداً وجماعات. وهناك لاشك قيم أخرى سلبية تشكلت بفعل الإحباط والإهمال وأصبحت تحكم تصرفات أناس آخرين في تلك المجتمعات وعلى قلتها لا بد من ذكرها حتى يتبين للقارئ الكريم أنني لم أغمض عيني عن السلوكيات السلبية للمجتمعات المتحضرة ففيها يجد المجرمون والمتخاذلون سببا لتصرفاتهم المضرة بالمجتمع فالظلم والجشع والاستغلال هي أيضا قيم تحكم تصرفات القلة ولكن المجتمع برمته يتكاتف ليحد من تأثير تلك القيم.
الآن وقد بات واضحاً أن تلك القيم الإيجابية هي السبيل الذي مهد لعلو تلك الأمم وتحقيقها مكتسبات هائلة بها فاقت أمم الأرض، لنا أن نسعد بأن كل تلك القيم متأصلة لدينا نحن أمة العرب، فنحن بالإسلام أكرمنا ونحن بالعروبة نواصل ثقافتنا وبها نفخر ومع ذلك أجدني أتساءل أين أضع بعضا من القيم السلبية التي هي في الواقع لا تحكم حياة القلة لدينا بل هي تدبر سلوكيات وتحكم حياة كثيرين من المستقيمين في أمتنا؟ وأتساءل، هل هذه الحفنة القليلة من القيم السلبية هي سبب تأخرنا؟، فمثلاً أين أضع قيمة التواكل وهي المتمثلة في المأثور الشعبي ''لو ركضت ركض الوحوش غير رزقك ما تحوش'' والاتكال على القدرات الخارقة والمتمثلة في قولنا ''قل خير يقوله الله'' والارتهان للضعف فنعتقد أن النجاح مآله للفشل عندما تفشل التجربة الأولى ''ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع'' والارتهان للقدرية حيث نحمل أخطاءنا وفشلنا وإحباطنا ونضعها في سلة نكتب عليها ''هذا قدر الله وإرادته''. ثم نضع إحدى أهم القيم فوق رؤوسنا وهي ''الفزعة'' ونبررها بقولنا ''انصر أخاك ظالماً أو مظلوما'' ومثلها إساءة الأمانة بقولنا ''جلد ما هوب جلدك جره على الشجر'' هذه الأقوال سائدة بين الناس وتعبر عن قيم سلبية وربما خفي علي غيرها كثير، ولكني أجزم أنها سبب تأخرنا عن ركب الأمم التي لا بد أن تتقدم وتكتسب لتسعد أهلها وتضيف للإنسانية إنجازا تفخر به.