التنمية ونظرية الإدارة بالتهريج
ليس هناك أسوأ ولا أصعب من التعامل مع من يحاول أن يخدعك من خلال استغلال طيبتك وسماحتك بالتظاهر أمامك بالرضا على ما تطرح والاندفاع الشفهي مع ما تقول ثم يضع الأدوات البراقة لتنفيذ أفكارك ومن خلفك يعمل على قتل تلك الأفكار من خلال المماطلة في التنفيذ على أساس أنك ستنسى أو تتعب من المتابعة, وكل مرة يقابلك يقول لك لقد شكلنا لجنة لدراسة الأفكار وهناك تنسيق مع خبراء للمشاركة في تقديم الأدوات المقترحة للتنفيذ, ثم يعرج بك على تلك الأدوات ويقترح أدوات أخرى لتنفيذ تلك الأدوات, ولمزيد من الإمعان في قتل الأفكار الأساسية يقترح تشكيل لجنة لمراجعة ما عملت اللجنة السابقة حتى يتم التأكد من أن العمل المرغوب فيه سينفذ على أعلى مستوى تحت قاعدة ''براءة للذمة''. هذا التصرف المميت أو القاتل لكل فكر وإبداع هو ما يقف حجر عثرة في وجه تحقيق التنمية أهدافها, وهو ما سميته الإدارة بالتهريج, لأن من يقوم بهذه التصرفات إنسان مهرج يستخدم أدوات تهريجه في المماطلة وقتل الأفكار, خصوصا تلك التي لا تحقق له الكسب المباشر الشخصي.
إن هؤلاء المهرجين نراهم بيننا في كل اجتماع يحرصون كل الحرص على ألا تخرج أي لجنة من تحت إشرافهم وسيطرتهم, يربون ويدربون مع الوقت الأعوان الذين يزرعونهم في كل شأن عام وخاص حتى يكونوا - كما يقولون - شبكة التحكم من قرب ومن بعد, منهجهم مخالفة كل من يحاول تصحيح وضعهم ثم مهاجمته ومهاجمة آرائه وأفكاره ومقترحاته بطريقة توحي للآخرين حرصهم على المصلحة العامة في فكرهم يقوده دراستهم لكل شخصية يتعاملون أو يتعاونون أو يختلفون معها بحيث لا يتركون مجالا للاختراق, وفي الوقت نفسه يعطون الإيحاء للآخرين بأنهم هم المقربون وأصحاب الحظوة من صاحب القرار أو المسؤول الأول في كل شيء.
هؤلاء المهرجون يملكون قدرة غريبة عجيبة على تحمل كل الصدمات والقرارات التي تحاربهم, فتراهم ينطوون لفترة وجيزة أمام الإعلام ثم يعودون مرة أخرى بطريقة مختلفة وحيل جديدة وبأسباب عديدة تجعل الطرف المقابل لهم يقف حائرا أو مصدقا لأهميتهم وقدرتهم على تحقيق المصلحة العامة, ولهذا يستغلون كل مناسبة عامة للوجود والظهور أمام الجميع على أنهم الصفوة المختارة للمسؤول وأنه يعتمد عليهم بشكل كبير, وإمعانا في تأكيد ذلك تراهم يحرصون على أن يكونوا بجانبه عندما تؤخذ الصور الصحافية حتى تبرز صورهم في اليوم التالي أمام المسؤول ليؤكدوا للجميع, خصوصا أصحاب المصالح الخاصة والضعفاء والخائفين على كراسيهم أنهم أصحاب قرار, كما أنهم يستغلون كل حدث إيجابي أو سلبي ويوحون للناس بأن لهم دورا في ذلك الحدث, حتى إنهم عندما أبعد مسؤول حكومي من منصبه البسيط أعطوا الإيحاء لكل من يتصل بهم أنهم هم من سعى خلف إبعاده وبهذا تصل رسالتهم للجميع بأنهم أصحاب تأثير وقرار والمحزن قدرتهم على التعمق في كل مسؤول من خلال معرفة المسؤول ومتطلباته الشخصية أو الأسرية أو الوظيفية وهم هنا يسمون ذلك ''مفتاح المسؤول'', أي أن كل مسؤول له مفتاح يمكن الدخول عليه من خلاله واستغلاله, وهنا المفاتيح التي يستخدمونها لا تحمل أي قيم اجتماعية أو إنسانية, فهم مستعدون لتوفير كل ما يطلبه أو يرغبه المسؤول المهم هو السيطرة عليه من خلال شهواته ورغباته ويعتقدون, ومع الأسف الشديد, أن كل مسؤول له شهوة أو رغبة مهما كان ذلك المسؤول صالحا ولهذا يصدمون عندما يجدون أحد المسؤولين ليس له مفاتيح ولا يمكن اختراقه أو استغلاله ويخرجون من صدمتهم من خلال تلفيق التهم لذلك المسؤول ويستغلون كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة للتشويش والاتهام لذلك المسؤول يساعدهم على ذلك بعض أفراد المجتمع المتعطش للشائعات والأقاويل والقصص .
إن أصحاب نظرية الإدارة بالتهريج أكثر خطورة على التنمية والبلد من أصحاب نظرية أنا ومن بعدي الطوفان أو البطانة الفاسدة, لأن أصحاب نظرية التهريج لا يوجد مسؤول يحرصون على حمايته وفقاً لمصالحهم وإنما يعتقدون مخطئين أن أي مسؤول مهما كان يمكن احتواؤه والسيطرة عليه وتوجيهه لتحقيق مصالحهم دون النظر إلى المصلحة العامة, وهذا بعكس البطانة الفاسدة التي لها مسؤول يحرصون على بقائه, ولهذا فإنهم يوازنون بين مصالحهم الخاصة والمصالح العامة.
وأخيرا يبقى السؤال المهم وهو: كيف نعرفهم؟ والإجابة بسيطة جدا, وهي الالتفات إلى كل مسؤول والنظر فيمن يحيط به ومدى تأثيرهم الإيجابي أو السلبي في تنمية البلد وقدرتهم على إيصال الرؤية والرسالة والوضع الحقيقي لما هو مسؤول عنه, بحيث يكون ذلك المسؤول ـ مهما كبر منصبه أو صغر - يعيش بين الناس ويحمي متطلباتهم ويعالج مشكلاتهم ولا يكون محجوبا عنهم تحت مظلة ''كل شيء تمام يا أفندم'', بحيث تصبح الفجوة بين المسؤول والمواطن واسعة ما يصعب ردمها في المستقبل .
وفقه تأمل :
ألا ما لجسمي قد علاه شحوب
وما بال قلبي خاصرته كروب
وما بال أحشائي توقد لوعة
وما بال رأسي قد علاه مشيب
إذا ما دعوت الدمع يوما أجابني
وإن رمت دعوى الصبر ليس يجيب
وإن رمت كتمان الذي بي من الأسى
جرى هاطل من مقلتي سكوب