التداعيات الثنائية والإقليمية لزيارة خادم الحرمين الشريفين إلى دمشق

زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله إلى دمشق تضع نهاية لمرحلة في العلاقات الثنائية والإقليمية امتدت أربع سنوات منذ اغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان السابق في شباط (فبراير) 2005، حيث توالت التوترات بعد أن واجهت سورية مرحلة عصيبة اضطرت خلالها إلى سحب قواتها خلال أيام من لبنان، وواجهت لجنة التحقيق الدولية وعقوبات أمريكية وتحرشات إسرائيلية، ووقع خلال ذلك كله عدوان إسرائيل الغاشم على لبنان، واكب هذه المرحلة تزايد عزلة سورية وتوتر العلاقات السورية مع كل من مصر والسعودية، وتماسك التحالف السوري - الإيراني في الوقت الذي لقيت فيه السياسات الإيرانية خاصة في العراق ولا تزال مختلف درجات النقد والضيق خصوصاً من جانب المملكة وبشكل أخص بسبب دورها في العراق، وتدخلاتها في المنطقة العربية. شهدت هذه المرحلة أيضاً محاولات التسوية السورية - الإسرائيلية بمحادثات غير مباشرة برعاية تركية، ثم تعثر هذه المحادثات بعد محرقة إسرائيل في غزة، ثم الإقبال الدبلوماسي الغربي على سورية في إطار محادثات تقارب سورية مع إسرائيل، واشتداد الأزمة الإيرانية الغربية وارتفاع وتيرة تهديدات إسرائيل بالهجوم على المنشآت النووية الإيرانية، وانعكاسات ذلك كله سلباً على السياسات الداخلية اللبنانية، وعلى مجمل الملفات الإقليمية. لذلك فإن إصلاح العلاقات السعودية ـ السورية كان مدخلاً ضرورياً وعلامة على اتجاه البلدين صوب إعادة الاعتبار للمحور الثلاثي الأساسي الذي ضم السعودية ومصر وسورية، وكان آخر لقاء قمة في إطاره قد تم في الإسكندرية في حزيران (يونيو) 1996، ونأمل أن تكون هذه الزيارة مقدمة لالتئام المثلث العربي وهو العمود الفقري للنظام الرسمي العربي.
غير أن الاتجاه إلى مناخ المصالحة لم يكن ممكناً بغير مبادرة خادم الحرمين الشريفين في قمة الكويت الاقتصادية، حيث كانت كلمته القصيرة المفعمة بمشاعر الإخلاص والألم على أحوال الأمة هي المفاجأة في قمة كان الانفجار هو المتوقع لأعمالها. ولا شك أن قيام خادم الحرمين بجمع الزعماء الذين باعد الجفاء بينهم بسبب تعقيدات هذه التطورات الإقليمية هو الذي فتح الطريق إلى احتواء حالة التوتر الخطيرة ومهد ذلك لنجاح قمة الدوحة العربية العادية بعد ذلك بأيام.
في إطار هذا المناخ الإيجابي العام بدأت علاقة المملكة وسورية في التطور لتستعيد زخمها القديم إيمانا من الجانبين بأهمية هذه العلاقات لكل الملفات الإقليمية، وإدراكا مسؤولا بالمخاطر التي تحيط بالمنطقة بسبب إعلان نتنياهو خطته الجسورة لتصفية القضية والاستيلاء على القدس وتدمير المسجد الأقصى، ومنذ وصول نتنياهو إلى الحكم تشهد القضية تراجعات خطيرة، فضلاً عن مناخ التوتر والترقب بسبب كثافة الحديث عن الخيار العسكري الأمريكي والإسرائيلي لوقف المشروع الأوروبي الإيراني.
وتعد زيارة خادم الحرمين الشريفين ردا على زيارة قام بها الرئيس بشار مما وفر الأرضية اللازمة لكي تتناول هذه الزيارة مختلف الملفات الثنائية والإقليمية بسبب ما تمثله المملكة وسورية في هذه الملفات. فالمملكة ركن ركين في كل السياسات العربية والإسلامية وفي القضايا المالية والاقتصادية العالمية. ولا أظن أن المجال يتسع لشرح ثقل المملكة على امتداد المنطقة والعالم، ولكن تكفي الإشارة إلى أن ازدهار العلاقات السورية - السعودية يلبى حاجة نفسية ملحة عند الشعوب العربية جميعاً التي آلمها هذا الصدع الذي أصاب العمود الفقري للنظام العربي، وأن السحابة السوداء التي أصابت هذه العلاقات أصابت الكثير من الملفات. يقدر المراقبون أن هذه الزيارة في سياق العلاقات المتطورة ستدفع بجهود المصالحة الفلسطينية ودعم المساعي المصرية حتى رغم أزمة تقرير جولد ستون، حيث للمملكة سجل حافل في دعم القضية الفلسطينية، وكان أهم محطاته الحديثة هو قمة مكة المكرمة للمصالحة التي ثبت أن قراراتها كانت أكثر طموحاً مما تمثله هموم الساحة الفلسطينية. أما أزمة الحكومة اللبنانية فسوف تدفع هي الأخرى نحو التسوية والوئام الداخلي لما لكل من سورية والمملكة من علاقات بأطراف الساحة اللبنانية. وفي القضية الفلسطينية والقدس فإن التوافق السوري ـ السعودي مضافاً إلى الموقف المصري سيسهم في تقديم القضية بصورتها المأمولة في البيئة الدولية على أساس المرجعية العربية المستندة إلى المبادرة السعودية في قمة بيروت 2002. ولا شك أن إغلاق ملف التوتر في العلاقات السورية - السعودية سيؤدي إلى اطمئنان سورية إلى أسرتها العربية لتكون أكثر ثقة في التعامل مع إسرائيل والتداول مع واشنطن وإيران، كما أن هذه الزيارة سترفع معدل الإقبال الغربي على سورية، فضلاً عن المنافع الثنائية في جميع المجالات.
إن هذه الزيارة المباركة تضيف إلى مآثر خادم الحرمين الشريفين ورؤيته الثاقبة وطبيعته الخيرة في وقت بلغ فيه الضيق بالمنطقة العربية ذروته، كما تضيف الزيارة إلى دعوته الخيرة بالحوار بين الجميع في مختلف الأديان والثقافات وحري بنا أن تستفيد الأسرة العربية من ثمرات هذا المنهج. وأخيراً، إذا كان للزيارة كل هذه الآثار المتوقعة، فإن هذه الزيارة هي الخطوة الأولى الضرورية في الاتجاه الصحيح لإعادة الاعتبار إلى العالم العربي، الذي تتناهشه المآسي في العراق وفلسطين والصومال والسودان واليمن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي