الابتكار المالي بريء .. العلة في المؤسسات المعيبة

يبدو أن كثيرين يعتقدون أن التعقيد المتزايد للمنتجات المالية هو مصدر الأزمة المالية العالمية. ونتيجة لهذا الاعتقاد يجادل كثيرون بأن على المنظمين التحرك بنشاط لتثبيط التعقيد.
بدا أن الكتاب الأبيض الصادر عن وزارة الخزانة الأمريكية في أيلول (سبتمبر) يقول ذلك. اقترح الكتاب إنشاء وكالة جديدة لحماية المستهلكين مالياً ''بحيث تخول تحديد معايير المنتجات المالية العادية التي هي أبسط، وذات تسعير مباشر''. كذلك يطلب الكتاب من ''جميع مقدمي، ووسطاء التعامل، أن يقدموا هذه المنتجات بصفة رئيسية، إلى جانب أي منتجات أخرى شرعية يختارون تقديمها''.
أيد الكتاب الأبيض الخاص بوزارة مالية صاحبة الجلالة في المملكة المتحدة في تموز (يوليو) 2009، بصورة مشابهة ''تحسين الحصول على منتجات بسيطة وشفافة، بحيث تظل على الدوام سهلة الفهم من جانب المستهلكين الذين لا يبحثون عن منتجات يحتمل أن تكون معقدة، أو بالغة التطور''.
الكتابان على حق. التعقيد غير الضروري يمكن أن يمثل مشكلة يتعين على المنظمين القلق بخصوصها، إذا تم استخدام التعقيد للتشويش والخداع، أو إذا لم تتوافر للناس مشورة جيدة حول استخدام المنتجات المعقدة بصورة ملائمة. والحقيقة أن التعقيد استخدم بتلك الطريقة في هذه الأزمة من جانب بعض البنوك التي أوجدت أدوات الأهداف الخاصة (للتهرب من متطلبات رأس المال). واستخدمت كذلك من جانب بعض مصدري الأوراق المالية الخاصة بالرهون لتضليل وكالات التصنيف والمستثمرين النهائيين.
يظهر علم الاقتصاد السلوكي الحديث أن هناك حدوداً مميزة لقدرة الناس على فهم الأدوات المعقدة والتعامل بها. وهم في الغالب لا يدركون تفاصيلها، بل يفشلون حتى في قراءة وفهم مضامين العقود التي يوقعون عليها. وأدى ذلك، خلال الفترة الأخيرة، إلى أن يحصل كثير من مشتري المنازل على قروض رهنية لم تكن ملائمة لهم، الأمر الذي ساهم في فترة لاحقة في حالات عجز شاملة عن الوفاء بالالتزامات.
لكن على أي جهد للتعامل مع هذه المشاكل أن يعترف بأن التعقيد المتزايد يقدم مزايا محتملة، كما يقدم مخاطر. ولا بد أن تكون في المنتجات الجديدة خصائص واضحة لدى المستهلكين، بحيث تكون بسيطة حتى يتمكنوا من فهمها، وبذلك يريدون هذه المنتجات ويستخدمونها بصورة سليمة. غير أن المنتجات نفسها ليس بالضرورة أن تكون بسيطة.
لقد جلب تقدم الحضارة تعقيداً جديداً هائلاً في الأدوات التي نستخدمها في حياتنا اليومية. فلم تكن البيوت قبل قرن مضى شيئاً أكثر من الرفوف، والجدران، والأرضيات. الآن تضم تشكيلة واسعة من الأدوات الإلكترونية، بما في ذلك الإضاءة وإطفاء الأضواء آلياً، وأدوات الاتصال، ومعالجة البيانات، والناس ليسوا في حاجة إلى فهم تعقيدات هذه الأدوات التي تمت هندستها لتسهيل تشغيلها.
شاركت الأسواق المالية، بطريقة ما، في زيادة هذا التعقيد، من خلال قواعد البيانات وأنظمة التداول الإلكترونية. غير أن المنتجات المالية الفعلية لم تتطور بهذا القدر. فأغلب تداولنا يتم على مستوى المنتجات البسيطة، مثل أسهم الشركات، أو السندات الاسمية العادية، وهي منتجات لم تشهد تغيرات رئيسية على مدى قرون من الزمن.
لماذا ظلت المنتجات المالية في معظمها بسيطة للغاية؟ أعتقد أن المشكلة هي الثقة. يزداد احتمال شراء الناس بعض الأدوات الإلكترونية الجديدة، مثل الكمبيوتر المحمول، بأكثر من احتمال شرائهم منتجا ماليا جديدا، بينما يزداد قلقهم بخصوص المنتجات المالية، أو نزاهة أولئك الذين يقدمونها.
المشكلة أن الانهيارات المالية تأتي بتكرار بطيء. ونظراً لما يبدو من أن حالات النقص والعيوب في النظام المالي متباعدة بعدة عقود من الزمن، من الصعب إدراك الكيفية المحتملة لسلوك أداة مالية جديدة. والأكثر من ذلك أنه بسبب التكرار البطيء للأزمات، الناس الذين يستخدمون الأدوات المالية لا تكون لديهم في الغالب إلا خبرة شخصية قليلة، أو حتى معدومة، بشأن بالأزمات. ولذلك يصبح من الصعب ترسيخ الثقة.
حين يستثمر الناس من أجل تعليم أطفالهم، أو من أجل تقاعدهم، فإنهم يتخوفون من مخاطر لن تكون واضحة قبل عدة سنوات. وربما لا يكونون قادرين على الارتداد عن المشتريات الخاطئة، أو الأدوات المالية غير المناسبة، وربما يعانون إذا تطورت الظروف التي تولد مخاطر كان يمكن التحوط لها.
هكذا، من أجل تسهيل التقدم المالي، نحن بحاجة إلى منظمين يضمنون الثقة بالمنتجات المعقدة. وعليهم أن يعملوا باتجاه تمهيد الطريق لزيادة انتشار استخدام منتجات أفضل. يجب أن يهتموا بكل من أفكار السلامة والابتكار. وعليهم ألا يكتفوا ببساطة بأن يكونوا فارضي ومطبقي قوانين ضد حيل المروجين الساخرين، بل ينفتحوا كذلك على جعل الأفكار المعقدة تنجح، بحيث تحمل في طياتها فرص تحسين الرفاهية العامة. ومن سوء الحظ أن الأزمة قلصت بحدة الثقة في نظامنا المالي.
في هذه المرحلة من التاريخ كان هناك اعتماد مبالغ فيه على النشاط الإسكاني كاستثمار. وهو بالفعل استثمار مرغوب فيه، نظراً لسهولة فهمه، إذ نشاهد البيت الذي نملكه بصورة يومية. لكن من خلال استخدام الإسكان أداة استثمارية كبرى، بنى الناس بيوتاً أوسع من حاجاتهم، وأصعب من حيث الصيانة. ومن المحتمل أن يكون لذلك التجاوز في الاستثمار الإسكاني عوائد سالبة في صورة استهلاك يتم بمرور الزمن.
لقد ساهم الاعتماد واسع النطاق على الإسكان كاستثمار، مع زيادة المديونية الناجمة عن الممارسات الرهنية الأحدث، في وجود فقاعة الإسكان التي انفجرت أخيرا، الأمر الذي أدى إلى عدد غير مسبوق تاريخياً من حالات الاستيلاء القانوني على الممتلكات. إن حقيقة إمكانية أن تصل الفقاعة إلى مثل هذا الحجم، ثم تنفجر، هي بالتأكيد إشارة إلى وجود مؤسسات مالية تكتنفها عيوب، وليس إلى مؤسسات بالغة التعقيد.
من سوء الحظ أن الناس لا يثقون ببعض الابتكارات الجديدة الجيدة التي يمكن أن توفر لهم حماية أفضل. إن الابتكارات في الرهونات خلال السنوات الأخيرة (بما في ذلك أمور مثل رهونات معدل الخيار القابل للتعديل) ليست منتجات خاصة بالنظرية المالية المعقدة. ولقد اقترحت فكرة ''التجربة المستمرة للرهونات'' التي تحفزها المبادئ الأساسية لإدارة المخاطر. ويمكن للرهن الذي يتم إصداره من قبل القطاع الخاص أن يحمي من الظروف الصعبة، كحالات الانكماش، أو تراجع أسعار المنازل. ولو تم تقديم مثل هذه الفروض العقارية قبل الأزمة، لما شهدنا مثل هذا العدد الكبير من الاستيلاء القانوني على الممتلكات. ومع ذلك، حتى بعد الأزمة، يبدو أن المنظمين يفترضون أن قروضاً رهنية بسيطة هي فقط ما نحتاج إليه في المستقبل.
هناك مثال آخر على وجود ابتكار مفيد يتمثل في وجود صندوق يستهدف تاريخاً معيناً (يسمى كذلك صندوق دورة الحياة)، يستثمر الأموال من أجل تقاعد الناس بطريقة مفصلة تماماً. ويخطط مثل هذا الصندوق للشباب كي يقدموا على مخاطر أعلى، وللمتقدمين في السن كي يستثمروا بتحفظ أكثر. وتزداد أهمية صناديق دورة الحياة هذه التي كانت بدايتها من قبل ويل فارجو وBGI في التسعينيات، غير أن قليلين من الناس هم الذين يستثمرون معظم محافظهم الاستثمارية في هذه الصناديق، أو يستفيدون من صناديق دورة الحياة التي يمكن أن تقوم بتعديلات خاصة باستثماراتهم. ويبدو أن الناس لا يثقون تماماً بأن هذه الصناديق مصممة بصورة سليمة، أو أن بإمكانها حمايتهم من الأزمات.
ثمة ابتكار آخر قليل الاستخدام هو مرتبات التقاعد التي تشمل حماية ضد المخاطر المحتملة. وهناك مرتبات مدى الحياة تحمي الناس من الإنفاق بأكثر مما لديهم من ثروات، وكذلك مرتبات معدلة وفقاً لحسابات التضخم، بحيث تحمي من التضخم. وتوجد كذلك مرتبات الحياة المتعثرة التي تحمي من مشاكل التقدم في السن، بحيث يمكن أن تزداد مصاريف المتقدمين في السن. ومن المرتبات المتوافرة كذلك تلك الخاصة بالأجيال، وهي التي تستغل إمكانيات تقاسم المخاطر بين الأجيال. غير أن معظم الناس لا يستخدمون أياً من كل ذلك.
من المثالي أن يتم وضع كل هذه الحمايات الخاصة بدخل التقاعد في صورة منتج موحد. ومثل هذه المنتجات ليست متوافرة بعد. ومن المؤكد أن الناس لن يثقوا بوضع مدخرات حياتهم في مثل هذا المنتج الجديد المعقد إذا كان متاحاً لهم. ولذلك لا يتم تقديم مثل هذه المنتجات، والناس في الغالب لا يقومون بأي شيء لحماية أنفسهم ضد معظم هذه المخاطر.
لا بد أن تكون هناك بنية تحتية مالية متزايدة التعقيد خلف توليد أي من منتجات التجزئة هذه، بحيث يتمكن المحترفون الذين يحاولون إنشاءها من إدارة أعداد كبيرة من المخاطر. إننا بحاجة إلى أسواق دولية سائلة لمؤشرات أسعار العقارات التي يشغلها أصحابها، وكذلك التي تستثمر تجارياً، وكذلك للمخاطر الشاملة على صعيد الاقتصاد الكلي، المتعلقة بالناتج المحلي الإجمالي والبطالة، وأيضاً لمخاطر احتمالات أعمار الناس، إضافة إلى أسواق أوسع وأكثر فاعلية في الأجل الطويل فيما يتعلق بمخاطر الطاقة. وهذه أسواق للمخاطر التي لم قائمة عندما تكشفت الأزمة، وهي تولد مجموعة واسعة من احتمالات ظهور منتجات تجزئة مالية جديدة.من الحيوي للغاية أن نغتنم فرصة وجود الأزمة لتشجيع التنظيم المالي المعزز للابتكار، وألا نسمح بأن تتم تغطية ذلك بقضايا شعبية مصطنعة. وعلى الرغم من التحسن الظاهر للاقتصاد، فإن الأزمة لم تنته، ولذلك الجمهور مستمر في تأييد التدخلات الحكومية. ومن شأن القيام بذلك تشجيع حوار أفضل بين مبتكري القطاع الخاص والجهات التنظيمية. وتفيد خبرتي الخاصة بالمنظمين أنهم أذكياء وذوو نوايا حسنة، لكنهم غالباً ما تطغى عليهم البيروقراطية. ووكالات التنظيم بحاجة إلى منحها دورا أقوى لتشجيع الابتكار. ويجب تمكينها من توظيف ما يكفي من الموظفين المؤهلين لفهم تعقيدات العملية الابتكارية، والتحدث إلى المبتكرين بأسلوب أبعد عن عدم الموافقة من خلال القواعد، وبطريقة أقرب إلى المساهمة في عملية معقدة قائمة على الابتكار.

الكاتب أستاذ للعلوم الاقتصادية والمالية في جامعة يال، وكبير الاقتصاديين لدى Macro Markets LLC.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي