في يوم الولاء والتلاحم .. لماذا هذا التصوير غير الواقعي؟
في مثل هذا اليوم من كل عام تتزاحم على صفحات الصحف السعودية المقالات والمقابلات التي تمجد مسيرة التوحيد وصاحبها, ويشعر بعض الكتاب بأن تمجيد المسيرة لا يكتمل إلا بالإقلال وتصغير شأن المنافسين للموحد, وبعضهم يصمهم بالأعداء, وآخرون يتفننون في وصف حال البلاد قبل التوحيد وكونها غارقة في جاهلية من الأطماع والاستباحة للممتلكات والحرمات, وأن الناس وحوش لم يستأنسوا. هذا التصوير غير الواقعي لا يعبر عن واقع حال التوحيد ولا مسيرته.
كان الموحد – الملك عبد العزيز- رحمه الله ـ واحداً من شعب يتطلع في قرارة بصيرته إلى التوحيد, فلم تكن حال البلاد من التشرذم السياسي مرضية لأحد, خصوصاً أن الناس كانوا حديثي عهد بكيان شامل, حيث كانت الدولتان السعوديتان الأولى والثانية تتراءيان لهم بما أكسبتاهم من فخر وقوة واستقرار, وكان الناس بادية وحاضرة يدركون أهمية الكيان السياسي الواحد المترابط, وأن التشرذم لم يكن مقبولاً, لذا لم تستقر بهم الحال وبات الناس ميالين للسير وراء أي راية تقود لجمعهم تحتها, هذا الواقع أحمى حدة المنافسة على تشكيل الكيان السياسي الواحد وباتت الأمم الكبرى المهيمنة على محيط واقع الجزيرة مؤثرة في تكوين ذلك الواقع, وعلى ما كان عليه الناس من رغبة في الانقياد لراية موحدة إلا أنهم كانوا مدركين أن تلك الراية يجب أن تكون راية مستقلة عن تأثير تلك الأمم, صادقة في منهجها وأن تكون محل الثقة, تحمل في ساريتها عمق التجربة ومصداقية الأثر. إن إجماع الناس على قبول الملك عبد العزيز قائداً لم يكن من قبيل فرض الواقع, بل إن ذلك كان امتدادا لما عهده الناس من سابقيه من أئمة الحكم السعودي, فملحمة فتح الرياض خير دليل على ذلك, فببضعة عشرة رجلا تسقط أهم حواضر نجد في يد عبد العزيز بغارة ليلية. إن الظن بأن قتل عجلان كان كافياً لحكم المدينة تسطيح واجتراء على الواقع, فلو لم يكن عبد العزيز الذي فعل ذلك لتمزق هو ورفاقه بين حراب أهل البلدة قبل أن تشرق الشمس. ولكن لأنه عبد العزيز بدا الناس كما لو كانوا ينتظرونه, فبمجرد الإعلان عن وجوده في الرياض تقاطر الناس للمبايعة, ولم يكن قتل حاكم ابن رشيد إلا من قبيل الإعلان عن نهاية حقبة وبداية أخرى.
واقع نجد وباقي نواحي الجزيرة كان يلح لتكوين كيان سياسي موحد, وكان شيوخ القبائل وحكام الحواضر تواقين لبدء تلك الحقبة الجديدة, فلم تمر فترة طويلة على فتح الرياض حتى انعقدت لعبد العزيز ألوية تضم المئات من أبناء البوادي والحواضر في صورة فسيفساء بشرية جميلة, كلها تطلب شيئاً واحداً, هو التوحيد, وبدأت المسيرة التي لم تقف إلا عندما أعلن تسمية المملكة العربية السعودية في عام 1352هـ. كان التوحيد هو الرؤية التي توقد الحماس في الجميع, ولو لم يكن للقوى الدولية العظمى أطماع يخشى أن تستثار حفيظتها فتعادي الكيان الوليد لاستمر التوحيد وشمل المشرق العربي كله ناهيك عن الجزيرة, ولكن حذر القائد ـ رحمه الله ـ ومثول تجربة الدولتين السعودية الأولى والثانية وكون نهايتيهما كانت بسبب استعداء الدولة العثمانية للدولة السعودية, لذا آثر ـ رحمه الله ـ أن يحجم الطموح في حدود ما يمكن توحيده دون أن يكون ذلك جالبا لعداوة المتسلطين على الأمة العربية.
كان الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ يدرك أن من كان يقاتلهم في سبيل التوحيد من حكام وقبائل, لم يكونوا أعداء وإنما كانوا منافسين ربما أغوتهم أطماعهم الفردية عن رؤية أهمية التوحيد, لذا, وبعد أن وضعت الحرب أوزارها, لم يحاكمهم أو ينفهم أو يضيق عليهم, بل عقد لكل منهم عقداً به استأمنهم وأمنهم وأكرمهم وقربهم وجعل من بعضهم قواداً في جيشه ومستشارين وصاهرهم هو وأبناؤه من بعده في تمثيل حقيقي لرباط الوطن الواحد, ولأن عبد العزيز كان يدرك أن بناء الوطن والأمة الموحدة لا يكون بإلغاء الآخرين بل باكتساب ما لديهم من كفاءات, كان ـ رحمه الله ـ يتمثل طموح الأمة في بناء الكيان وليس طموح الفرد في السيطرة والاستئثار, لذلك قبله الناس ولذلك دانت له أطراف الجزيرة دون أن يطلق طلقة واحدة. كان الانتماء لهذا الكيان مصدر فخر حتى أن قبائل الشمال التي كان لبعضها امتدادات في بلدان أخرى سعت إلى الولاء لهذا الكيان.
محصلة القول أن الرجال الذين ساروا خلف عبد العزيز في مسيرة التوحيد كانوا هم أهل البلاد, فلم يكونوا وحوشاً ولم يكونوا لصوصاً ولم يكونوا متناحرين, كانوا متنافسين وكانوا قبل التوحيد يتصرفون بما يقتضيه حال التشرذم من تصارع على المصالح والموارد, ولكنهم جميعا تواقون لواقع يجمعهم وقيادة تلمهم, فبرز لهم عبد العزيز, سليل التجربة والمتشرب قيم القيادة العربية الأصيلة, وعندما اكتمل بناء الدولة بدأ مسيرة التنمية وكان يدرك أن تلك هي المسيرة الأصعب, وما نحن فيه اليوم من ترف ونعمة ما هو إلا نتيجة لحكمته ـ رحمه الله, وسيطرته على طموحاته, فقصة انسحاب الجيش السعودي من أطراف صنعاء وهو في أوج عنفوانه مثال لتلك الحكمة. رحمه الله رحمة واسعة ورحم معاصريه الذين كانوا معه والذين نافسوه فكلهم أبناء هذه الأمة وكلهم آباء لنا, منهم نستمد شعلة الولاء والتلاحم.