هل نجحت قمة العشرين في تشخيص أزمة الاقتصاد العالمي؟

ليست المرة الأولى التي تنعقد فيها قمة مجموعة العشرين في لندن التي ضمت - كما هو معروف - أكبر اقتصادات العشرين العالمية وهي: الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وكندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والصين وأستراليا واليابان وروسيا والبرازيل والأرجنتين والهند وإندونيسيا والمكسيك والسعودية وتركيا وجنوب إفريقيا وكوريا الجنوبية. في القمم السابقة عادة ما يتفق زعماء ورؤساء حكومات الدول على مجموعة مبادئ خاصة بإعادة تأسيس النظام المالي العالمي أو بمعنى آخر تعديل قواعد اللعبة المالية الدولية لتعزيز مصالحهم المالية بغض النظر على حساب من تكون, لكن ما ميز القمة هذه المرة هو حجم الخلافات التي ظهرت على السطح, وهي إشارات لخلاف بين أوروبا وأمريكا بشأن الإنفاق والتنظيم, فدول مثل بريطانيا والولايات المتحدة التي أشارت بوضوح إلى أنها لا تقبل إجراءات لا تتفق مع سياساتها المالية وتشريعاتها, وبريطانيا وهي التي تعتبر نفسها المركز المالي الأول في أوروبا لم تشأ أن تضحي بمكانتها, كما أن الولايات المتحدة وهي التي اندلعت منها الشرارة الأولى للأزمة المالية لم تقبل بإجراءات عالمية ضد قلعتها المالية ''وول ستريت'', على أن القضية الأهم في القمة هي الضغوط الشديدة التي قادتها ألمانيا وفرنسا لإعطاء الأولوية لإصلاح النظام المصرفي الدولي عبر فرض قيود على البنوك وحثتا على زيادة التأكيد على تعزيز تنظيم الأسواق المالية للوقاية من عمليات الانهيار مستقبلا, في مقابل كل ذلك تعهدت فرنسا بأن تشن ما وصفته بهجوم على المدفوعات الكبيرة للعاملين بالبنوك وأن تتخذ إجراءات فعالة لتغيير نظام الحوافز البنكية لأن نظام الحوافز المصرفية هو أساس الأزمة المالية العالمية ولابد من وضع قيود عليه, وهدد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي حمّل بريطانيا والولايات المتحدة مسؤولية الأزمة الاقتصادية بتخريب قمة مجموعة العشرين والانسحاب منها في حال لم يتم الاستجابة إلى مطالب بلاده بفرض ضوابط مالية صارمة على النظام المالي العالمي, وسط كل هذه الخلافات فقد كان انهيار البنوك الأميركية الكبرى في العام الماضي هو السبب المباشر في تفجر أعنف أزمة مالية منذ الأزمة التي ضربت منطقة جنوب شرق آسيا عام 1997, الاقتصاد العالمي اليوم بدا غارقا حتى أذنيه بالكثير من الأزمات التي تناولتها قمة العشرين دون إغفال أدنى قضية وجعلت المرء يبدو منبهرا بوضع هذا الكم من القضايا التي وضعت على طاولة الحوار, فهل تم إعطاء كل هذه القضايا حقها أم أن هناك تشخيصا كان يجب أن تتبعه قمة العشرين وتركز عليه بشكل أساس وهي أزمة القطاع المصرفي العالمي؟ وإذا كانت الخطة التي تبنتها القمة العشرينية هي تحديدها لخريطة طريق كان من المفترض أن تكون ذات معالم واضحة لإصلاح النظام المالي العالمي، وذلك بعد البرنامج الذي أظهرته دول المجموعة كعادتها في مثل هذه القمم لاستعادة الثقة بالنظام المالي عبر إجراء إصلاحات في البنك وصندوق النقد الدوليين وتعزيز تعاونها لإعادة إطلاق النمو الاقتصادي العالمي وإصلاح النظام المالي بشكل أساسي, وكذلك المطالبة بآليات ملموسة لمراقبة الأسواق العالمية وضمان شفافيتها، وذلك بوضع قائمة سوداء بالمؤسسات المالية التي تشكل ممارساتها خطرا على الاقتصاد العالمي, لقد بحث وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية من دول مجموعة العشرين المتقدمة والناشئة خطوات عديدة لمواجهة واحدة من أسوأ الأزمات المالية منذ الكساد العظيم في الثلاثينيات، وبعد مناقشة الاختلالات العالمية والعمل على تحقيق درجة عالية من النمو المستقر وضرورة زيادة دور وتمثيل الاقتصادات الصاعدة والنامية بما في ذلك الدول الأشد فقرا, تم اتخاذ خطوات إضافية لتعزيز المؤسسات المالية والشركات المهمة للنظام والإشراف الرقابي الحصيف، السلطات القضائية غير المتعاونة, الملاذات الضريبية وتطبيق المعايير الدولية على الأطراف الفاعلة خارج النظام المصرفي الأساسي مثل المشتقات الائتمانية, التقريب بين معايير المحاسبة الدولية, العمل على زيادة الشفافية والوصول إلى معايير عالمية لهيكل الأجور بما في ذلك التأجيل والاسترجاع الفعال والعلاقة بين المستحقات الثابتة والمتغيرة والمكافآت المضمونة لكي تنسجم ممارسات الأجور مع خلق القيمة والاستقرار المالي في الأجل الطويل, وبعد أن اتهم بعض المصرفيين النظام المالي العالمي بأنه ساعد على تفاقم الأزمة الاقتصادية عن طريق الاندفاع نحو اعتماد المعايير المعروفة باسم القيمة السوقية، فجميع الدول ستبقي على مراقبة أسواقها المالية والسيطرة عليها إلا أنها ستلتزم المبادئ العامة التي اتفق عليها وإدخال الإصلاحات المقترحة على المؤسسات المالية وتحسين أدائها وتبني المزيد من إجراءات الشفافية في عملها, بعدئذ سيجري التركيز على إحداث آلية عمل تنظيمية دولية للقطاع المالي تجعله تحت خدمة الاقتصاد العالمي, وبعد أن تيقن الجميع من هشاشة النظام المصرفي العالمي باعتباره أساس الأزمة المالية الحالية، خصوصا بعد إثارة موضوع المكافآت الخيالية التي صرفت لكبار مديري البنوك حتى في ذروة الأزمة، وبذلك تطلب وضع استراتيجيات مصرفية جديدة, وكانت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما قد ألزمت مديري بنوك ظلت قائمة بفضل أموال حكومية بإعادة مكافآت ضخمة أعطيت لهم في حين كانت مؤسساتهم تترنح وتسير نحو الإفلاس, فتقييد أنشطة المصارف وزيادة الرقابة عليها أصبح قضية ملحة, وبعد أن نوقشت مسألة حزم التحفيز الاقتصادي الحكومي وهل ينبغي الاستمرار في ضخ أموال التحفيز على الرغم من أن الاقتصاد العالمي أوشك أن يخرج نهائياً من دائرة الركود وعمل على طمأنة أسواق المال وتبيان أن لديهم خططا يعتد بها للانسحاب من إجراءات التحفيز في الوقت المناسب, الأوروبيون أرادوا نشر قوائم خاصة بكل من الملاذات الضريبيّة والبلدان التي لا تحترم معايير مكافحة تبييض الأموال، وتلك التي لا تتعاون في مسائل الجرائم المالية وقصدوا بذلك رصد صناديق التحوط وتنظيمها وكذلك إصلاح نظم المحاسبة العالمية, وبعد الاتفاق على عدد من الإجراءات التي هدفت إلى إبقاء برامج الدعم الاقتصادي لحين التأكد من رسوخ التعافي وإن لم يتوصلوا إلى اتفاق بشأن وضع قيود على أجور المصرفيين, وبعد أن وصلت  قيمة خطط إنقاذ القطاع المالي إلى أربعة آلاف مليار دولار, وبما أن البنك الدولي قدر الحاجة التمويليّة للدول النامية بقيمة 700 مليار دولار، فإن القمة الاقتصادية يجب أن تعد بزيادة أكبر في قروض المصارف بهدف التنمية ومساعدة الدول الفقيرة والأكثر تضررًّا من الأزمة, وبعد أن اضطلع زعماء الدول على حجم التجارة العالمية الذي سجل أكبر تراجع عرفه التاريخ منذ الحرب العالمية الثانية بلغ نسبة 9 في المائة, كان من واجب الدول الغنية أن تسعى جادة لفتح المزيد من أسواقها أمام صادرات الدول الفقيرة بدلاً من عرقلة انسيابها عبر الحدود بالعوائق الفنية والضرائب التمييزية حتى لا تتفاقم أسعار المواد الأساسية والغذائية العالمية, وكذلك فإن الدول النامية ليست ملزمة بتوصيات الدول الكبرى بضخ أموالها فيما سمي ببنوك الفقراء دون دراسة وافية للموضوع, لقد حان الوقت لكي تقتنع الدول بأن أحكام العولمة لا تخولها استباحة مبادئ الحرية الاقتصادية على حساب العدالة في تحرير الأسواق التجارية ولا تمنحها حق استنزاف خيرات الدول النامية لانتشال أنقاض تداعيات سياساتها المالية, وحيث إنه جاء في البيان الذي أصدرته المجموعة أن هذه السياسات المالية والنقدية التوسعية ستستمر حتى يخرج الاقتصاد العالمي تماما من الأزمة المالية, وخلص وزراء مالية القمة الاقتصادية العشرين إلى اتفاق يقضي بتعزيز رؤوس أموال المصارف وقيادة المصارف إلى اتخاذ أقل قدر ممكن من المخاطر وحماية ميزانيّتها ومشاريعها بشكل أفضل, فهل نجحت قمة العشرين في تشخيص الأزمة المالية العالمية باعتبارها أزمة مصارف؟ إذا كانت الإجابة بنعم فإنها لفرصة كبرى للدول والمؤسسات المصرفية الإسلامية أن تفرض نفسها بفعالية وأن تفرض رؤاها باعتبارها تملك حلولا مصرفية بديلة، وهي مؤهلة لأن تحقق الأمن الاقتصادي الذي عجز الغرب عن توفيره للعالم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي