النووي والشمسي.. بأيهما نبدأ؟!

بداية لا بد أن ننطلق في تحليلنا من مُسَلَمَةٍ أساسية وهي ''أنه على الرغم من كون المملكة هي أكبر مصدر للنفط، وصاحبة أكبر احتياطي مؤكد من هذا المصدر على مستوى العالم، فإن المملكة – وعلى خلاف ما قد يعتقد البعض– بحاجة أكثر من غيرها إلى الإعداد بجدية من الآن، لوضع استراتيجية تضمن تنوع، ومن ثم أمن الطاقة Energy Security في المستقبل، فالمملكة وللعديد من الاعتبارات (السكانية والتنموية وخاصة التنمية الصناعية) بحاجة إلى البحث بجدية والاستفادة من منجزات التنمية في تطوير مصادر بديلة ومتجددة للطاقة حتى يمكن الحديث عن استدامة التنمية في هذا البلد''. وهذا يأتي في إطار التفكير في حقوق ومصلحة الأجيال القادمة.
وحتى أوفر وقتك عزيزي القارئ، فقط تعال نتصور حجم الاستهلاك المحلي من النفط، الذي يصل إلى نحو ثلاثة ملايين برميل نفط مكافئ، يتم استهلاكه سواء في محطات توليد الكهرباء أو تحلية المياه أو في مصافي التكرير وغيرها. وتشير التوقعات إلى تعدي حجم الاستهلاك 4 مليون برميل يومياً خلال السنوات الخمس القادمة. كما أن لنا أن نتخيل الوضع بعد 10 أو 20 عاماً، سيتضاعف حجم الاستهلاك، سواءً لاعتبارات الزيادة السكانية والطلب السكني على الطاقة، أو لمتطلبات النقل، والصناعة التي يفترض أن تتضاعف حصتها من الناتج المحلي بحلول عام 2020م بحسب الاستراتيجية الوطنية للصناعة.
نفهم من هذا أنه يتصور خلال فترة – ومع افتراض استقرار إنتاج المملكة حول 10 ملايين برميل يومياً – أن يبتلع الاستهلاك المحلي كامل الإنتاج. ومن ثم لن يكون هناك مجال للتصدير، ولنا أن نتخيل تبعات تراجع عائدات النفط على الاقتصاد. ليس هذا فقط، لنا أن تتخيل تبعات تضاعف الاستهلاك المحلي من النفط والغاز على البيئة، ومن ثم على صحة الإنسان. بل عليك أن تتخيل الوضع بعد 30 أو 40 سنة!! الأمم التي سبقتنا في التطور، كانت أكثر استشرافاً للمستقبل، من خلال التخطيط والإعداد الجيد لمواجهة تحديات المستقبل، ولهذا نجحت في تخطي العقبات. الأهم من هذا كله، هو أن النفط - الذي تتعلق به الرقاب - هو مورد ناضب، فأمامنا دول كثيرة (مثل إندونيسيا وعمان والولايات المتحدة وغيرها) بدأت تشهد نضوباً في الكثير من آبارها، ونحن لسنا استثناءً في هذا الخصوص.
ليس المقصد هو إحباطك عزيزي، بل على العكس، الهدف هو بث الأمل والإعداد الجدي لمواجهة تحديات المستقبل، خاصة أن لدينا القدرة والإمكانات لمواجهة تحدي الطاقة. فالطاقة وكما قال أحد الحائزين على جائزة نوبل في الفيزياء هي عماد كل شيء، من خلالها نحصل على الماء النظيف والحياة الكريمة والتعليم والصناعة والإنتاج...إلخ.
عند هذه المرحلة علينا أن نتساءل، ما بدائل أو آليات تحقيق أمن الطاقة؟ يُرَدُ على ذلك، بأن العالم يعرف الكثير من مصادر توليد الطاقة، بعضها متوافر في المملكة (كالنفط والغاز) والبعض الآخر غير موجود (كالفحم ومساقط المياه)، والبعض الآخر قابل للتطوير كالمصدر الشمسي والمصدر النووي إضافة إلى مصادر ثانوية أخرى كالرياح والوقود الإحيائي والنباتي.
دعونا نفكر في أبرز المصادر القابلة للتطوير، وتحديداً المصدر الشمسي والمصدر النووي. المصدر الشمسي جدير بالاهتمام، وتتمتع المملكة فيه بميزة نسبية عالية، حيث وفرة أشعة الشمس معظم العام. ويشكل توجه الاتحاد الأوروبي، من خلال مشروعه لتوليد الطاقة الشمسية من الصحراء الإفريقية ثم تصديرها إلى أوروبا، قوة دفع كبيرة، ويستفاد منه جدوى هذا المصدر، خاصة بعد أن باتت تقنيات الإنتاج أكثر نضوجاً. إلا أنها تبقى صناعة عالية التكلفة مقارنة بالمصادر الأحفورية كالفحم والغاز، كما أنها تتطلب لقيامها توافر قدرات وكفاءات بشرية عالية التأهيل للعمل في محطات الطاقة الشمسية والقيام بخدمات التشغيل والصيانة وغيرها.
أما المصدر النووي – الذي ترتعد فرائس الكثيرين منا بمجرد ذكره– فهو الآخر مصدر جدير بالاهتمام، خاصة إذا علمنا أن أكثر من 80 في المائة من محطات الطاقة النووية التي يتم التخطيط لبنائها خلال السنوات العشر القادمة ستشيد في الدول النامية، وفي مقدمتها الصين والهند. كما أن تقنيات هذه الصناعة - وعلى خلاف ما يعتقد الكثيرون – باتت عالية النضج والتطور، وهو ما أدى إلى انخفاض تكلفة بناء المحطات النووية فضلاً عن تكلفة التشغيل والصيانة.
وتشكل تكلفة بناء المحطة النووية نحو 70 في المائة من إجمالي تكلفة المحطة على مدى عمرها، في حين تشكل تكلفة الوقود النووي (اليورانيوم) نحو 20 في المائة. وتفيد التجارب المقارنة بأن محطة نووية بطاقة 1000 ميجا وات تكلف نحو ثلاثة مليارات دولار (تكلفة الإنشاء والوقود والصيانة والتشغيل والتفكيك)، وهي قادرة على العمل بشكل متواصل على مدى 60 عاماً، وهذه الفترة قابلة للزيادة عشرين عاماً أخرى. لا يمكن أن نتجاهل تحديات ومخاطر المصدر النووي، ولكن لا ينبغي أن تقعدنا هذه التحديات عن الدخول فيه أو الخوف منه، خاصة أن أمامنا باقي الأمم – وخاصة المتحضرة – تُعنى بهذا المصدر. فالناظر إلى الخريطة العالمية لتوزيع محطات الطاقة النووية، سيجد أن هناك رابطة قوية بين تقدم هذه الأمم وبين وجود المحطات النووية والعكس صحيح. الأكثر من هذا أن المصدر النووي متعدد الاستخدامات سواءً في مجالات الصناعة أو الزراعة أو الطب.. إلخ.
سيحاول البعض تذكيرنا بكارثة تشيرنوبل، ولكن هذا حدث منذ أكثر من 22 عاماً عندما كان عدد المحطات النووية لا يتعدى 150 محطة، في حين يعمل بالعالم حالياً نحو 450 محطة نووية منها أكثر من 100 في الولايات المتحدة وحدها، وجميعها تعمل بكفاءة عالية، واشتراطات أمان فائقة. ترتب على استخدامها خفض فاتورة الطاقة والحد من الانبعاثات الكربونية، إضافة إلى كثير من المزايا الأخرى التي يصعب حصرها. أكرر، لا ننكر التحديات والمخاطر، ولكن تجربة العالم على مدى أكثر من نصف قرن تؤكد جدوى هذا المصدر، ولكنها تتطلب لقيامها توافر مقومات عالية التطور، سواءً على الصعيد المؤسسي والتشريعي أو على الصعيد البشري أي توافر الكفاءات البشرية المؤهلة علمياً وتقنياً لإدارة وتشغيل وصيانة المحطات.
ذكرت أن تكلفة المحطة النووية بطاقة 1000 ميجا وات تصل إلى ثلاثة مليارات دولار، بل تقل عن هذا المبلغ في الصين والهند. وربما يُصدم البعض من هذا الرقم، ولكن دعونا نحسب تكلفة استهلاك المملكة لنحو ثلاثة ملايين برميل نفط مكافئ في اليوم، أي استهلاك أكثر من مليار برميل في العام. وفي ظل افتراض سعر برميل النفط عند 50 دولارا (وليس 100 أو 150 دولارا)، فهذا يعني أن تكلفة استهلاك الوقود في المملكة ''لعام واحد'' هي أكثر من 51 مليار دولار. هذا يعني أن استهلاك المملكة في عام واحد (وفقاً لمعدلات الاستهلاك الحالية وليس معدلات 2015 أو 2020م) يكفي لبناء 47 محطة نووية، تعمل كل منها بطاقة 1000 ميجا وات، وتستطيع العمل – ليس لعام واحد – وإنما على مدى 60 أو 80 عاما!!
أتفق معكم في غرابة وصعوبة الأرقام، وماذا ستكون إذا افترضنا أن الاستهلاك اليومي أربعة أو ثمانية ملايين برميل؟! أو إذا حسبنا تكلفة الاستهلاك على مدى 10 أو 20 عاماً وليس عام واحد. إذاً لا نختلف في أن مسألة التكلفة ستصب في مصلحة المصدر النووي، هذا ناهيك عن الأبعاد التنموية الأخرى التي يصعب حصرها.
المشكلة يا أعزائي أن الكثيرين يحاولون – سواءً عن قصد أو عن غير قصد – تخويفنا مما لا نعرفه أو لا نعلمه (فالإنسان عدو ما يجهل)، حتى نبقى في ثبات، بعيدين عما يجري حولنا. لا أختلف في أن المصدر النووي له متطلبات خاصة كما ذكرت، ولكن هذا لا يعني أننا نشكل استثناءً على باقي الشعوب، وأن علينا أن نكفي خيرنا شرنا. هذا ليس صحيحاً، فلو كان هذا المصدر بهذه الخطورة، لما احتضنته كثير من الدول المتقدمة وحديثة التصنيع، فنجاح تجربة واحدة كافٍ لدحض حجج المعارضين لاقتناء هذا المصدر. الآن، حدثتنا عن الشمسي وحدثتنا عن النووي، وأكدت على جدواهما، فبأيهما نبدأ؟ ببساطة شديدة، علينا التحرك عبر مسارين:
الأول: وهو العمل من الآن على تطوير محطات الطاقة الشمسية لتكون قادرة على الإنتاج خلال السنوات الخمس القادمة، فليس لدينا مشكلة كبرى سواء من حيث توافر الوقود (الشمس) أو توافر الإمكانات المادية، حيث وفرة الفوائض التي تبحث عن فرص استثمارية، بل يمكننا حفز القطاع الخاص الوطني على تطوير هذه الصناعة بشراكات أجنبية، وفي الوقت نفسه ينبغي أن تبدأ مؤسساتنا العلمية في إعداد الكوادر البشرية، لتكون قادرة على تشغيل وصيانة وحماية هذه المحطات بحلول عام 2014م. فهذا الخيار لابد من الدخول فيه دون تراخٍ.
الثاني: وهو المسار النووي، وهو مسار طويل الأجل، إذ من المتعارف عليه عالمياً أن لدخول بلد في استخدام هذه التقنية، يلزمه ما بين 10 و 15 عاماً، يتم خلالها تطوير المؤسسات البحثية (كإنشاء المفاعلات البحثية في الجامعات) وتطوير الكفاءات، وخاصة في تخصصات الهندسة النووية والتخصصات المساندة، فضلاً عن تطوير ووضع التشريعات الصارمة، التي تنظم استخدامات هذه التقنية والتزامات الأطراف كافة .. إلخ.
من خلال هذا التحرك المتوازن، يمكننا أن نوفر سلة من المصادر، تحقق أمن الطاقة في المستقبل، بل ستوفر فرصة ثمينة لتوجيه النفط - الذي يتم حرق مليارات البراميل منه - نحو استخدامات بديلة، تنطوي على قيمة مضافة أعلى للاقتصاد الوطني، وفي الوقت نفسه نضمن تأمين مستقبل أكثر إشراقاً للأجيال القادمة وبيئة أقل تلوثاً، والله الموفق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي