كلنا طالب علم ولا كهنوت في الإسلام (1 من 2)
كان لمقالي في جريدة ''الاقتصادية'' ( قبل أن تكاثروا الأمم يوم القيامة نافسوهم على الحياة) أثر في نفوس بعض القراء وبدلاً من مناقشة الحجة بحجة مناظرة لها, أدعى بعض منهم بعدم أهليتي لعرض ذلك الموضوع وأن استدلالي ببعض الأحاديث النبوية كان نابعا من نقص في فهمها، وبالتالي فاستنباطي مدلول تلك الأحاديث ساقط . هذا الأمر أوجد في نفسي عزما على إيضاح أن لا حجة لخصوصية العلم لأحد، وأن كل مسلم تقع عليه مسؤولية طلب العلم وفهمه، وبالتالي يحصل الأجر من ذلك عندما تصدق النية في الاستقصاء في البحث والتأصيل، ويقع الإثم عندما يكون القصد حجب دين الله أو تأويله على غير ما أراد .
أريد أن أبدا مقالي بمناقشة مفهوم خصوصية العلم وما قيل فيه حتى يكون القراء على بينة من ذلك، وحتى يكون هذا البحث منتهجاً أسلوبا علميا يجب علي في البداية تعريف العلم، فالعلم على إطلاق مفهومه هو الوعي والإدراك والإحاطة بمجمل ما يكون وما لا يكون من شيء وهو معرفة الحقائق على الشمول، حيث يعلم ما هو كائن وما سيكون وما لا يكون وقد أستأثر الله ـ سبحانه وتعالى ـ بذلك وحبا خلقه قليلا من ذلك فقامت به دولة الإنسان التي نراها وما سيتمخض عنها في المستقبل، وحيث إن صفة الإنسان تبدأ من عدم فهو عالم لا شيء ابتداء ومعناه أنه مطبق الجهالة، فبقدر ما يعلم من محيطه وحاله تنجلي بعض جهالته بعلم مكتسب فهو منذ أن يولد يكتسب العلم ويطلبه، وهناك مفهوم يقيس العلم المتاح للإنسان بما هو متوافر من الاستفسار فعلمنا يتسع بقدر ما نسأل ونبحث عن إجابة ولا علم لدينا لا يجيب عن سؤال قائم أو محتمل. والعلم شأن الله يؤتيه من يشاء ''وعلم الإنسان ما لم يعلم'' وحجب كثيرا من العلم لنفسه ''ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ''، ولكن ما نحن بصدده في هذا النقاش هو العلم الشرعي الذي تتحقق به الاستقامة في عبادة الله ـ سبحانه وتعالى ـ على الوجه الذي ابتغاه وذلك يتحصل بقراءة القرآن الكريم وتدبره وفهم واستيعاب مضامينه والإطلاع على ما صح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قول أو فعل، في هذا التعريف يتم حصر العلم الشرعي بما أنزل الله على نبيه من آيات بينات وما أضافه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من إيضاح وتفصيل في العبادات والعلاقات والأفعال والتي وردت على صورة روايات لمعاصريه من الصحابة، ولا يدخل ضمن العلم الشرعي تلك الاجتهادات والأساليب التي استخدمها المفكرون المسلمون منذ العصر الأول للإسلام لتأصيل مصدرية النصوص وتبويب وترتيب المعارف الشرعية وتأسيس أساليب الدرس والتحصيل، فتلك علوم إنسانية المنشأ أبدع في تأسيسها أولئك المفكرون اجتهادا في تسهيل عملية طلب العلم لعموم الناس، فمثلاً ترتيب سور القرآن الكريم ابتداء بالفاتحة وانتهاء بسورة الفلق لم يكن إلهي المصدر بل كان من منطلق ترتيب السور حسب طولها. وهو اجتهاد بشري ينسب لصاحبه مع العلم أن الترتيب ممكن أن يكون على هيئة مختلفة، كما أن جمع الحديث الشريف في صورة أسانيد كصحيح البخاري ومسلم وموطئ مالك والترمذي وغيرهم وتبويبهم تلك الأحاديث في صورة أبواب موضوعية هو اجتهاد منهم، وقد اجتهد كل منهم في إتباع منهج لـتأصيل صحة تلك الأحاديث وعلى الرغم من العناء الذي تكبدوه في سبيل تصحيح تلك الأسانيد، فقد تباينوا في بعض النصوص والأسانيد وكل منهم اتبع قاعدة في تصنيف الأحاديث من حيث المصداقية فمنها الحسن والغريب ومنا ما أتفق على صدقها. يحتج بعض الناس بأن الله يسر لبعض عباده علما لا يبلغه غيرهم وأن الناس مطالبون بالرجوع لأولئك في فهم دينهم ويدعون أن أولئك هم المعنيون بقول الله تعالى: ''الراسخون في العلم'' ويستدلون على ذلك بالآية الكريمة ''هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب''. إن الرسوخ في اللغة هو الثبات وليس الإلمام كما يظن البعض، لذا فالمعنى المراد هو أولئك الثابتون في الاعتقاد، فثبات عقيدتهم يعصمهم من الإنجرار في تأويلات الآيات المتشابهة بما يعكر تلك العقيدة، عكس من في قلوبهم زيغ والذين يتصيدون التأويلات المبهمة والمعكرة صفو العقيدة. وهذا المفهوم لتعبير الراسخون في العلم أتفق عليه كثير من المفسرين. كذلك يظن أولئك الناس أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ طلب منا الرجوع لمن سماهم ''أهل الذكر'' وهم المجتبين بحق الإيضاح لما خفي على الناس من دينهم ويستدلون بقول الله تعالى ''وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون''. هذه الآية أيضا لا تثبت أن هناك فئة أسمهم أهل الذكر يجب علينا أن نسألهم، حيث نزلت هذه الآية عندما أشكل على بعض المشركين كيف يتبعون محمد وهو منهم ولو أراد الله بهم الإيمان لأرسل لهم ملكا فكانت الآية في صورة خطاب للرسول الكريم توضح أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أرسل رسله من البشر للأمم السابقة يوحي إليهم وأن على المشركين سؤال أهل الذكر من التابعين للرسل السابقين وهو بذلك يشير ولا يخصص اليهود والنصارى والصابئة. فأهل الذكر هم من لديهم العلم بذلك حيث يذكرونه في كتبهم وصلاتهم، وفي مجمل البحث الذي قمت به لم أجد أن في الإسلام تخصيصا لحق فهم الإسلام على فئة معينة أو أشخاص معينين بل إن ما عليه إجماع المسلمين هو أن لا رهبنة في الإسلام وهو خصوصية في فهم الدين وتفسيره للناس، مع أن بعض الملل الإسلامية تقوم على بعض هذه المفاهيم، إلا أن أهل السنة على إجماع بشيوع حق طلب العلم والقول فيه، وهو ما يفسر قول الإمام أبي حنيفة في تفنيد من حاجه بقول بعض الفقهاء ''ما جاء عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعلى الرأس والعين وما جاء عن الصحابة اخترنا وما كان من غير ذلك فهم رجال ونحن رجال''، وكذلك قول معاصره الإمام مالك ''كل يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر''، ويشير إلى قبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لذا أظن أن للمسلم الاطلاع والبحث والسؤال عما يشكل عليه والعمل بما يستقر عليه حسن عقيدته .
إن كثيرا مما يتداول اليوم على أنه علم شرعي ما هو إلا اجتهادات بشرية تمثلت في هيكلية بنائية للدين في صورة علوم تفصيلية مثل علم الأصول وعلم فقه المعاملات وفقه العبادات وعلم الحديث قام بها عدد كبير من الفقهاء والمفكرين المسلمين على مر العصور وتمثلت في ركام من التفاسير والتأويل والشرح والتأصيل شكل مكتبة هائلة للفكر الإسلامي، هذا الفكر على ثرائه وروعته، أيضا تمثل في صورة تراث مرهق لمن أراد أن يعي العلم الشرعي بتجرد عما سلف من أقوال السابقين، فلا يقبل منه إلا أن يكون مطلعاً على ذلك الأثر وهو مقيد بحد أدنى من عدم الاختلاف معه وإلا أستجلب على نفسه ليس النقد فقط بل لربما وضع نفسه رمية لكل حامل حجر. هذا التراث الفكري لو أردنا تحليه من حيث مكوناته الأساسية لوجدناه يتمثل في تفسير نصوص شرعية بمفاهيم سابقة وتأويل نصوص شرعية سابقة لتتضمن مفاهيم جديدة وشرحا لتفسير أو تأويل أو معارضة له وتأصيل لنص نبوي وجرح أو تعديل في الرواة وتصنيف في الأسانيد، واستنباط وتبويب أحكام وفتاوى. وهذه في جلها نتاج فكر إنساني في مراحل زمنية متتابعة تفاوتت فيها سيادة مفاهيم وصراعات وخلافات واضطهاد للمخالفين، أثر كثيرا في تكوين هيئتها وأغراضها.