Author

العقود المستقبلية والمشتقات وسوق الأوراق المالية

|
في عدد «الاقتصادية» رقم 5773 ليوم السبت الأول من شهر آب (أغسطس) الجاري، جاء في سياق إحدى المقالات خبر مفاده عزم سوق أبو ظبي للأوراق المالية إطلاق التداول في العقود المستقبلية على الأسهم ومؤشراتها، واستكمالا لأهمية الكشف عن دور المشتقات المالية في جذب رؤوس الأموال وتشجيع الاستثمارات في أسواق المال بشكل عام وفي سوق الأوراق المالية بشكل خاص، مما يسهم في كسب ثقة أطراف العملية الاستثمارية، ورفع كفاءة السوق، واكتسابها في الوقت نفسه قدرة عالية على تشجيع الاستثمارات. جاءت فكرة كتابة هذه المقالة المرتكزة بشكل خاص إلى تناول وتوضيح مصطلح العقود المستقبلية كإحدى مفردات المشتقات المالية من خلال طرح تساؤل يتعلق بهذه النوعية من المنتجات المالية القادرة على تحقيق المساعي في دعم وتنشيط الاستثمار في سوق الأوراق المالية في العصر الحديث، وهو: لماذا تعتزم البورصات البدء باستخدام العقود المستقبلية، في حين أن هناك أنواعا أخرى من المشتقات المالية تؤدي الغرض نفسه أو الهدف من استخدامها في هذه البورصات؟ في البداية يجب الإشارة إلى أن المشتقات المالية التي قدمتها مبتكرات الهندسة المالية في الفكر المالي الحديث تتعدد وتتباين أنواعها بحسب طبيعة تداولها في بيئة أسواق المال بشكل عام، إذ إن هناك أنواعا منها يتم تداولها في أسواق غير منظمة، وأنواع يتم تداولها في أسواق منظمة، في حين أن هناك أنواعا تتم ممارستها في كلا النوعين من الأسواق غير المنظمة والمنظمة. ولتبسيط الأمر وتوضيحه للقارئ العادي، تتم التفرقة أولاً بين الأسواق غير المنظمة والأسواق المنظمة التي تتعامل في المشتقات المالية. حيث يستخدم اصطلاح الأسواق غير المنظمة للتعبير عن حالة الأسواق التي تتعامل في عقود شخصية تقوم على المفاوضة والاتفاق بين الأطراف أصحاب المصلحة بشكل مباشر، فهي أسواق تخضع للمفاوضة في تحديد كافة بنودها بشكل شخصي ومباشر في آن واحد وفقا لتفضيلات واحتياجات الأطراف الراغبة في عقودها، وبالتالي يقتصر دور أعمال الوساطة في هذه الأسواق على التوفيق بين طرفي التعاقد في مقابل حصول الوسيط على عمولة دون أدنى مسؤولية عليه في حالة عدم التزام أحد طرفي العقد ببنود التعاقد المتفق عليها، كما أن صفقات البيع والشراء لا تتم في مكان واحد مخصص لهذا الغرض، ما يجعلها أسواقا غير مركزية. وهكذا فإن هذه الأسواق غير خاضعة للأنظمة واللوائح التي تحكم تعاملاتها بشكل منظم ومقنن، ولا توجد جهة أو هيئة مسؤولة عن تنظيم أعمالها والرقابة على تداولاتها، ما يجعلها مصدرا لعديد من المخاطر المالية، إذ إن أحد أهم ملامح هذه النوعية من الأسواق عدم الوضوح والشفافية في تقديم البيانات والمعلومات المرتبطة بتحديد القيمة العادلة للعقود، وانخفاض السيولة بسبب التعامل على العقود بشكل شخصي بين أطراف العقد، ما يتسبب في قلة عدد المتعاملين على كل عقد، وبالتبعية صعوبة وجود طرف آخر يقبل الدخول كبديل لأحد أطراف العقد في حالة إذا ما تراجع أحد طرفي العقد عن الوفاء بالتزاماته التعاقدية في ظل الشروط التي قام عليها العقد. ويعبر عن هذه الأسواق في بيئة الواقع العملي بمصطلح الأسواق خارج المقصورة Over-The-Counter Markets . أما مصطلح الأسواق المنظمة، فإنه يتأسس على الأنظمة واللوائح والتشريعات التي تحكم تعاملاتها الصادرة عن الجهات الرسمية المختصة بالشكل الذي يجعلها قادرة على تحقيق أهدافها في بيئة سوق المال. وبالتالي يقصد بالأسواق المنظمة في هذا الشأن، الأسواق المتعاملة في عقود نمطية وليست شخصية كما هو الحال في الأسواق غير المنظمة، فهي عقود لا يجري تفصيلها بشكل شخصي ومباشر بين طرفي العقد، وإنما يتم تداول الصفقات المرتبطة بتعاملاتها من خلال طرف آخر ثالث يقوم بعملية الوساطة بين طرفي العقد دون أن يكون لطرفي العقد أي صلة مباشرة فيما بينهما. وهكذا تشير كلمة العقود النمطية إلى العقود الموحدة في كافة شروطها من حيث حجم العقد، وشروط وتواريخ التسليم، ومواصفات الأصل محل التعاقد، ومكان التسليم، وكيفية التسليم، باستثناء السعر الذي يتم التفاوض عليه وتحديده وفقا لرغبة طرفي العقد وعدد العقود التي تحدد احتياجات أطراف العقد. وبهذا الشكل، تحقق هذه الأسواق ميزة التعامل في مكان واحد محدد تلتقي فيه كافة أوامر البيع والشراء على العقود المقيدة، وذلك عبر أطراف تعمل في السوق تظهر في شكل شركات أو مؤسسات مالية يطلق عليهم الوسطاء الماليون، وهم وكلاء بالعمولة عن كافة البائعين والمشترين في السوق، كما أن ورود كافة أوامر البيع والشراء في مكان واحد يؤدي إلى وجود عدد كبير من البائعين والمشترين، وهذا من شأنه توفير مستوى عال من السيولة من خلال التقاء ممثلي البائعين والمشترين في مكان واحد يقدمون فيه عروضهم السعرية على مرأى ومسمع من باقي الوسطاء الماليين. ويطلق على هذه النوعية من الأسواق في بيئة التطبيق العملي بلفظ البورصة Exchange. ومن هذه المقدمة البسيطة يمكن الدخول بشكل مباشر للإجابة عن التساؤل الرئيسي لهذه المقالة، فالعقود المستقبلية هي أحد أهم أنواع المشتقات المالية وأكثرها انتشارا وشيوعا في الوقت الراهن في مجال الحماية من مخاطر التقلبات في الأسعار التي يجرى التعامل عليها من خلال أحد الأسواق المنظمة، فهي في واقع الأمر تمثل تطورا طبيعيا للعقود المؤجلة التي تتم ممارستها في الأسواق غير المنظمة رغم وجود عديد من أوجه الاختلاف بينهما الذي تتم في ضوئها دائما التفرقة بينهما (أي المؤجلة والمستقبلية) على أنهما شيئان مختلفان، إلا أنهما في الحقيقة وفي الأصل شيء واحد، وقد ذهب إلى ذلك صندوق النقد الدولي من خلال إحدى الدراسات التي أعدت عن المشتقات المالية بقوله «إن العقود المستقبلية التي يجري عليها التعامل في سوق منظمة ما هي في الأساس إلا عقود مؤجلة». وإذا ما رجعنا إلى التراث الفكري المالي نجد أن أحد أكثر المسببات التي أدت إلى نشأة وشيوع استخدام العقود المستقبلية تعود إلى الظاهرة التي نشأت في بيئة الأسواق غير المنظمة عند التعامل في العقود المؤجلة، وتكمن هذه الظاهرة في تراجع أحد طرفي العقد عن التزاماته تجاه الطرف الآخر في تاريخ تنفيذ العقد وتسويته، ففي حالة الشراء مثلا قد يتراجع المشتري عن تنفيذ العقد نظرا لكون السعر المحدد في العقد أعلى من السعر في السوق الحاضر في تاريخ التسليم، كما أن البائع قد يتراجع عن تنفيذ العقد في حالة البيع عندما يكون سعر العقد أقل منه في السوق الحاضر وقت التنفيذ. ولمواجهة هذه الظاهرة وعلاجها، ظهر اتجاه يقوم على أساس إيداع كل طرف من أطراف العقد مبلغا من المال لدى طرف ثالث يتعامل معه (الوسيط)، يتمثل في مبلغ نقدي أو نسبة من سعر العقد لإثبات حسن النية لدى أطراف العقد، وقد أطلق على هذا المبلغ أموال الهامش المبدئي، والذي كان الأساس أو النواة الرئيسية للنظام الهامشي المعمول به الآن في الأسواق المنظمة التي تتعامل في العقود المستقبلية. وهكذا، وضعت العقود المؤجلة الأساس لما يسمى الآن العقود المستقبلية، وبدأت عملية تنميط شروط العقود المستقبلية من قبل الجهة المشرفة على إدارة السوق. وبعبارة أكثر وضوحا، انصرف توحيد العقد إلى كافة شروط العقد، فيما عدا السعر وعدد العقود المبرمة اللذين تركا للتفاوض بين طرفي العقد، وبما يضمن أن يكون هناك نوع واحد من العقود متعارف عليه من كافة المتعاملين يحقق لها الانتشار بشكل واسع. ولاكتمال أساسيات تنظيم العقود المستقبلية تم إنشاء دار المقاصة أو التسوية، وهي جهة مسؤولة للإشراف على عمليات التعاقد وتنفيذها مقابل رسوم معينة تحصلها من طرفي العقد تتلخص مهمتها في تحقيق الانسيابية وتسهيل التعامل في السوق، ما يعطي الأمان والثقة للمتعاملين كافة في ظل انخفاض مخاطر عدم وفاء أحد طرفي العقد بالتزاماته تجاه الطرف الآخر التي قد تكاد محدودة للغاية إن لم تكن معدومة، وبالتالي ضمان الالتزام بتنفيذ كافة بنود العقد في تاريخ تسويته. وهكذا تؤدي العقود المستقبلية الدور الإيجابي والفاعل في تغطية الجوانب السلبية التي تعرضت لها الأنواع الأخرى من العقود المتداولة في الأسواق غير المنظمة. وكما هو واضح من العرض السابق تشكل العقود المستقبلية في بيئة أسواق الأوراق المالية أداة يتم إبرامها والاتفاق عليها في الوقت الحاضر بين طرفين أحدهما مشتر والآخر بائع لسعر لسهم ما، أو مؤشر لأسهم ما، على أن يتم التنفيذ في المستقبل بالأسعار السائدة المتفق عليها وقت التوقيع عليه من خلال جهة مسؤولة عن هذه النوعية من العقود يطلق عليها دار المقاصة أو التسوية للمعاملات المستقبلية. وفي ضوء ما سبق يمكن تلخيص أهم ملامح العقود المستقبلية في السمات التالية: 1. نمطية الشروط في عقودها Standardization Contracts، فلا تباين من عقد لآخر، ولا تخضع لرغبة المتعاقدين طالما أن شروط العقد متعارف عليها من كافة المتعاملين، باستثناء السعر وعدد العقود. وبالتالي لا يوجد لبس بشأنها. 2. تداولها يتم داخل أسواق منظمة من خلال جهة رسمية في السوق يطلق عليها « بيت للمقاصة أو التسوية Clearing House، تعد وسيطا وضامنا لكل عملية أو صفقة تتم بين طرفي العقد، بحيث يقوم كل عميل بإيداع مبلغ نقدي من المال لدى الوسيط الذي يتعامل معه في بيت المقاصة كتأمين يستخدم فيما بعد لتغطية الخسائر التي قد يتعرض لها طرفا العقد، يطلق على هذا المبلغ الهامش المبدئي Initial Margin، إذ يقوم بيت المقاصة بممارسة مهامه بعد تعزيز طرفي العقد لعملية التعاقد بلعب دور البائع بالنسبة للمشتري، ودور المشتري بالنسبة للبائع. وبذلك يصبح ضامنا لكل عملية تعاقد، ما يسهم في ضمان وفاء أطراف التعاقد بالتزاماتهم، وفي الوقت نفسه مواجهة مخاطر عدم وفاء أحد الطرفين بالتزاماته تجاه الطرف الآخر، وذلك في ظل حدود التقلبات السعرية اليومية المسموح بها، التي عادة لا تزيد على مقدار الهامش المبدئي الذي سبق إيداعه لدى بيت المقاصة الذي يعد وسيطا وضامنا لطرفي العقد في السوق. 3. إلزامية عقودها لكافة الأطراف، وذلك بتنفيذ التعهد الوارد في العقد في تاريخ أو لحظة وفاء كل من الطرفين بالتزامات العقد، من خلال تسوية فروق الأسعار الخاصة بهذه العقود بشكل منتظم، عادة ما تكون على أساس يومي وفق نظام يقوم على تقييم العقد وفقا لأسعار السوق Marking-to-Market، ليرتفع رصيد الهامش الذي تم إيداعه لدى بيت المقاصة بمقدار الأرباح إذا ما اتجهت الأسعار في صالح العميل، أو ينخفض بمقدار الخسائر إذا ما اتجهت الأسعار في غير صالحه. وبالتالي غالبا ما يتم التنفيذ في تاريخ انتهاء العقد بسداد وتحصيل فروق الأسعار بين السعر المتفق عليه عند التعاقد والسعر السائد وقت أو تاريخ التنفيذ. وأخيرا، فإن توفير الأدوات المالية التي تعمل على خلق الأسواق المستقرة التي تسودها المنافسة الكاملة، وتوفير الكفاءة العالية إلى جانب السيولة، وبالتبعية تحقيق سمة الكمال في تلك الأسواق، هو ما تهدف إليه البورصات أو الأسواق المنظمة وتسعى إلى تحقيقه. وبالرغم من ذلك، فإن استخدام هذه المنتجات المالية المبتكرة دون معرفة وخبرة ودراية طويلة من خلال مؤسسات أو شركات الوساطة المالية المتخصصة كفيل بأن يلحق الضرر بمستخدميها، ويعرضهم لمخاطر عالية هم في غنى عنها.
إنشرها