بنك جرامين وبرنامج الإقراض بالغ الصغر
ما دمنا على أبواب شهر رمضان الكريم وجب إبراز دور المؤسسات ذات النزعة الإنسانية والخيرية والتي تأخذ بيد المحتاجين ماليا واجتماعيا, لا ننكر أن مشكلة الفقر قد هيمنت على إدارات المؤسسات الدولية وأدبياتها لكن هذه المؤسسات قد جهلت أمورا كثيرة في خصوصية هذه الظاهرة لدى كل مجتمع ولم تعطه حقه المأمول, بينما يشير الواقع على الصعيد المصرفي أن تأسيس بنك جرامين في عديد من الدول ومن ضمنها بنك الأسرة في البحرين كامتداد للفكرة نفسها مشروعا رائدا فذا. وبعد أن أثبت النظام المصرفي العالمي أنه ذا سمعة سيئة ويحوي الكثير من التلاعب والاختلاس والتسلق الوظيفي التي لا علاقة لها بالكفاءة في كثير من الأحيان فقد آن الأوان لبعث هذا المشروع المصرفي خلسة على ركام إجراءات المصارف المعقدة وجشعها, تاريخيا لم يدر بخلد البروفيسور محمد يونس أن يصبح برنامجه للانقراض بالغ الصغر الذي لم يزد عن كونه جمعية تسليف تعاونية أن يكون اللبنة الأولى لإنشاء بنوك للفقراء أو سيتم تطبيقه بقدر من التعديل في أكثر من 50 بلدا حول العالم, وبما أن الأسعار الربوية أصبحت نمطية ومقبولة اجتماعيا في عديد من بلداننا إلى حد أن المقترض نادرا ما يدرك مدى الظلم الذي وقع عليه جراء العقد المبرم بين البنوك الذي عادة ما يلبسه بصنوف الغبن. بنك جرامين هذا بمثابة صرخة في وجه البنوك التقليدية التي كبدت المواطن أو الزبون أضعافا مضاعفة من الفوائد أو الربا لتجعل منه عبدا يشابه كثيرا نظام الرق الاستغلالي. لا أود أن أقدمه على صورة ترياق وحل سحري لجميع المشكلات لكن هذا البنك الفريد قد تخطى تعقيدات العصر ووضع الثقة التامة في عملائه، كما أوضح ذلك سجله التاريخي، حيث لا يوجد مكانا فيه للشرطة أو المحاكم أو المحامين أو أي دخلاء لتسوية مشكلات السداد, فقد افترض بنك جرامين الأمانة في كل مقترض وقلل المستندات القانونية بين المقرضين والمقترضين وقلل الضمان العيني والشيك الائتماني. وبعد أن أخذ العمل فيه منحى جماعيا، حيث يعامل المقترض من البنك وكأنه مالك للبنك لأن الغرض من التحريم الديني للفائدة هو حماية الفقراء من الربا ولكن حينما يمتلك الفقراء البنك الخاص بهم فإن الفائدة تدفع للشركة التي يمتلكونها ومن ثم لأنفسهم, وبهذا ينتفي نظام خذلان المقترضين الذي روجت له البنوك التقليدية على مدى العقود الماضية, أي أن مشروع بنك جرامين هو مشروع حسن النية أظهرت تجربته أن الدين المعدوم فيه كان أقل من 1 في المائة وهذه ضربة قاصمة لبنوك الأوفشور والبنوك التجارية التي أخذت تصارع الوضع الائتماني الصعب على مستوى العالم وأخذت تفتح الأقسام المختلفة وتوظف الخبراء المصرفيين وتنفق عليهم المبالغ الطائلة عدا أتعاب المحامين من أجل استرداد ما يمكن استرداده من ديون مشكوك في تحصيلها أو ديون معدومة، وذلك على الرغم من الاتفاقيات الموقعة مسبقا والشروط والتواقيع التي امتلأت بها صفحات بنود القرض وكأنها عريضة مرفوعة. ويهدف بنك جرامين أساسا القضاء على الفقر عبر تشجيع المقترضين على أخذ القروض بأساس تنموي واجتماعي لتوفير ظروف اجتماعية مناسبة لكل عائلة, ويحث على الاستفادة التامة من الفوائد وتحديد سقف محددا لها مهما طالت مدة السداد بمعنى أنه لا يجوز لقيمة الفائدة أن تتجاوز قيمة القرض مهما تأخر المقترض في السداد. وعندما نتحدث عن الائتمان بالغ الصغر فإننا نحاول تخفيف حدة الفقر بالإقراض لمشاريع الأعمال الصغيرة التي يمكن أن تتوسع خصوصا بعد أن عجز المصرفيون عن فهم القوة الاجتماعية للائتمان الذي عادة ما يخلف قوة اقتصادية سرعان ما تترجم إلى قوة اجتماعية, فبدل أن تضع القوانين المصرفية محاباة للقادرين على الاقتراض وتصدر حكمها الجائر بنبذ الفقراء لأنها تعتبرهم أشخاصا يفتقدون الجدارة الائتمانية وهي تفرقة لا إنسانية قائمة على أساس مادي، وما هو موجود في حسابات العميل وأخذ الضمانات التي تثقل كاهله, فخلف هذا النهج عديدا من الأسر التي بقيت مركونة في خانة ضحايا المعاملات غير العادلة للبنوك التقليدية وهضمت حقوق الآخرين في الحصول على الائتمان. وعلى هذا الأساس يكون برنامج الائتمان بالغ الصغر فكرة إبداعية شديدة الإثارة عندما تلامس العمل المصرفي القائم على الدقة والشروط التجارية التي لا تأخذ في الحسبان العوامل الاجتماعية والإنسانية, على الجانب الآخر فقد بقيت إدارة بنك جرامين أو بنك الفقراء في بحث دائم عن سبل خلق فرص اقتصادية لمنخفضي الدخل وحثهم على الإبداع والاستثمار بدلا من دفع الإيجارات أو الحصول على الطعام, ويعد بنك جرامين نموذجا يحتذى به لتطوير عمل الصناديق الخيرية أيضا من حيث تغيير المبادئ التي تقوم عليها الصناديق بخصوص معاملة متلقي هذه المساعدات وتهيأتهم لأن يعتمدوا على أنفسهم مستقبلا, تطبيقا للمثل الشهير ''بدل أن تطعمهم سمكا, علمهم الصيد'', وحيث إن الكثير من المقترضين عبروا بنجاح خط الفقر وتركوه بعيدا فإنه من اللازم عليهم ولوج مرحلة أخرى ترفع من مستواهم المعيشي من حيث الانخراط في مشاريع خلاقة مدرة للمال, ولو أننا نظرنا إلى كل فرد حتى الذي يتسول في الشارع على أنه يمكن أن يكون منظم مشروع صغير لاستطعنا أن نبني نظاما اقتصاديا يتيح لكل رجل وامرأة استكشاف إمكاناته الاقتصادية والمالية.
بنك جرامين هذا يقترب كثيرا من واقعنا التجاري في منطقة الخليج العربي منذ القدم، حيث كانت التجارة آنذاك قائمة على المبادئ التي يقوم عليها نفسها من حيث ثقة المتعاملين به لأن الرجل في ذلك الزمان يقام له اعتبار على أساس كلمته التي يظل مخلصا لها ولا يتراجع عنها بل حتى في وفاته فإنه يوصي أبناءه بالسداد من بعده, وإذا كان التلون والمراوغة هي صفة العصر التجاري فلم تفلح الوثائق الورقية ولا الإلكترونية في حل مشكلة السداد بل زادتها تعقيدا, لقد كانت دفاتر المحاسبة القديمة بسيطة إلا أن سداد الديون لا يواجه صعوبات كالتي نواجهها اليوم, كما أن المبادئ النبيلة التي قام عليها هذا البنك من حيث الدراسات الميدانية للأسر في الأماكن التي أنشئ فيها ومعاملة الزبون الراقية والذهاب إليه في بيته هي معاملة مميزة أخذت في الحسبان الأبعاد الإنسانية التي ضاعت في هذا العصر, كما يعد توجه البنك للاستثمار في العنصر النسائي خطوة إيجابية أكبر فعندما تكون الغالبية العظمى من المقترضين هم من النساء، فإن البنك قد أسهم في عملية التنمية الاجتماعية النسوية ووقف إلى جانب قضايا المرأة, إنه ثورة في العمل المصرفي استهدف إزاحة الجمود الذي ألقي على كاهلنا عشرات السنين جراء تصرفات الإدارات المصرفية التقليدية المنطلقة من بروج عاجية ذات صبغة احترافية متعالية. والى جانب أخذ بنك جرامين بمبدأ التنمية للجميع وتحديد أهداف استراتيجية تنموية في قطاع الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية كبناء المستشفيات والمدارس والاهتمام بالعاطلين عن العمل والمتسولين لانتشالهم من الفقر وليس مجرد تخفيف أعراضه عنهم, وبذلك يكون بنك جرامين, أو بنك الفقراء, كمؤسسة خيرية مستنيرة تبذل قصارى جهدها في عمل لا تنتظر من ورائه جزاء ولا شكورا, هذا النجاح الكبير الذي حققه البنك يدعونا لأن نوصي باستنساخ تجربته، فحري بنا أن ننشئ بنكا خليجيا على غرار بنك جرامين يهتم بشؤون الفقراء ويقنن الأعمال الخيرية.