حكومة عربية لشعب أوروبي!
في زيارة لإحدى الدول العربية هذا الصيف كان سائق التاكسي يشكو بحرارة من الإجراءات المرورية الجديدة التي فرضت في الدولة والتي تشمل عقوبات قاسية على عدم لبس الحزام ووضع كاميرات السرعة في الشوارع وغير ذلك، بينما الطرق ما زالت تحمل مظاهر من السبعينيات الميلادية وتفتقد أساسيات تنظيم المدن، والقيادة فيها تحتاج إلى خبرة محلية عريقة باتجاهات السير والأنظمة، ورجال الشرطة ما زالوا يفتقدون أولويات التعامل مع مختلف المواقف المرورية.
كانت عبارة سائق التاكسي صادمة: ''يريدوننا أن نصبح شعبا أوروبيا، بينما الحكومة ما زالت على النمط العربي''. هذا التعبير الجميل اختصار لقضية مهمة جدا حين يتم تطبيق الأنظمة والقوانين (والتي تبدو في كثير من الأحيان وكأنها تهدف لخدمة مصالح الحكومة من حيث الدخل الناتج عن الرسوم والمخالفات أو لخدمة الروتين الحكومي)، بينما المواطن يشعر بأن الأمور الأساسية التي يحتاج إليها من الإدارة التي تصدر هذه القرارات لم تتحقق بعد.
بكلمات أخرى، هناك دائما سرعة أكبر في تطبيق الأنظمة والقوانين من السرعة في محاولة خدمة الناس ومعالجة مشكلاتهم. وأحيانا، هناك ميول حكومي عام لعلاج المشكلات بإصدار القوانين التي تضع الجهد والمسؤولية على المواطن بدلا من تحمل الإدارة الحكومية للمسؤولية المتمثلة في التنظيم وتوفير الإمكانات والتوعية والتقييم الذاتي وتدريب الموظفين, وغير ذلك من مفردات التطوير الحكومي.
لقد وجدت كثير من الحكومات العربية نفسها في أزمة مع وجود الإعلام الذي يغطي بالصوت والصورة التقدم الموجود في الغرب والتقدم الموجود في بعض دول الخليج، وصارت تحاول تقديم برامج دعائية تشعر المواطن العربي بأن الإدارات الحكومية تحاول اللحاق بمثيلاتها، بينما الحقيقة يعرفها المواطن الذي يتعامل يوميا مع الإدارة الحكومية ويعاني ضعفها وسوء تنظيمها والجفاف لدى موظفيها في التعامل مع مراجعيهم. خذ مثلا عددا من الحكومات العربية التي أعلنت إطلاق برامج الحكومة الإلكترونية بينما أنظمتها الروتينية الحكومية لم تتغير منذ أكثر من 50 عاما، وما زالت تتعامل بالدفاتر والسجلات الورقية لرصد المعاملات وتسجيل المعلومات، فضلا عن القسوة المنظمة في التعامل مع المواطن الذي يراجع تلك الإدارات الحكومية.
حتى في الدول العربية التي خرجت عن هذه المنظومة واستطاعت بذل جهود حقيقية للتطوير مثل المملكة وبعض دول الخليج، ما زال الكثير من المسؤولين الحكوميين يتسرع في إصدار أنظمة وقرارات ضمن إدارته الحكومية دون أن يفكر ببذل ما يحتاج إليه ذلك من توعية مسبقة للموظفين والجمهور، وما يحتاج إليه من تنظيم شامل، بحيث تصبح القرارات جزءا من هذا التنظيم الشامل، وتصبح العقوبات أمرا محدودا فقط لمن يرفض اتباع التنظيم، وحيث توجد كل الوسائل متاحة للناس للتعرف على النظام والتعامل معه بيسر وسهولة.
إن عدم اتباع هذه الشمولية في وضع القرارات هو الذي يسبب فشلها وينتج عنه تغييرها لاحقا، ويضع الإدارة الحكومية في واحد من مأزقين: التراجع عن النظام الفاشل وهو أمر لا يملك الكثير من المسؤولين الشجاعة لفعله، أو الإصرار على النظام الفاشل، وهذا أمر أسوأ من التراجع عنه.
نحن نعيش في عصر التغيير، وخاصة في الدول العربية التي تحاول اللحاق بركب الدول المتقدمة، ومن المتوقع أن يكون لدينا الكثير من الأنظمة الجديدة وبرامج التطوير، وهذا كله يحتاج لبناء ثقافة ''مقدمات التغيير'' Change Prerequisites، والتي تحدد للإدارات الحكومية متطلبات أي قرارات جديدة وأنظمة في هذا المجال.
الكتب التي تتناول قضايا ''مقدمات التغيير'' تقول إن أي تغيير لا يركز على تغيير السلوك الإنساني المرتبط بالمشكلة التي يراد علاجها يفشل، وتغيير السلوك الإنساني يحتاج لإقناع كل المشاركين في الموضوع (الموظفين والمواطنين والعملاء المستفيدين والمديرين وغيرهم) بأهمية التغيير والحاجة إليه، كما يحتاج للتدرج معهم لقبول الأمر والتحمس له، حتى ينجح ذلك التغيير بالفعل ويحقق أهدافه.
المشكلة في هذا طبعا أن الوزراء والمسؤولين الحكوميين الذين يريدون تحقيق إنجازات ملموسة خلال فترات توليهم المناصب الإدارية يجدون أن مثل ''المقدمات'' والتغيير عن طريق تغيير السلوك الإنساني يأخذ وقتا طويلا لا يسمح لهم بإعلان برامجهم وإنجازاتهم بسرعة، وعلاج هذه المشكلة أن يفهم الناس أن الإنجاز يبدأ بمجرد إطلاق الوزير أو المسؤول لبرنامج التغيير الذي يشمل المقدمات على مراحل متتابعة تأخذ عدة سنوات، وأن تكون هناك متطلبات مفروضة على كل المسؤولين فيما يتعلق بكيفية التغيير.
أما التغيير السطحي أو التغيير عن طريق إصدار القرارات ''الملزمة'' فقط دون المقدمات الضرورية فهو بالضبط كيف يمكن لحكومة عربية أن تحكم شعبا ''أوروبيا''!
* مدير الإعلام الجديد ـ مجموعة MBC