صناعة تقدير الذات: أين الضرر؟

كل إنسان يحب ذاته.. نعم, ورغما عن أساطين صناعة تقدير الذات الذين يروجون لعكس ذلك, ولعله كان أجدى بهم - بدلا من أن يحثوا الناس على حب ذواتهم, وهو تحصيل حاصل – أن يحثوهم على تحويل القليل من هذا الحب لمن حولهم من البشر وللبيئة وللمجتمع.. إلخ. وإلا فهل تعرفون شخصا لا يسعى إلى جلب الخير لنفسه ودفع الشر عنها؟ طبعا قد يكون لديه خلل في تعريفه للخير أو الشر (وهي مسألة مفاهيم وطريقة تفكير ولا علاقة لها بتقدير الذات), ولكنه في النهاية يريد لنفسه الخير ويكره لها الشر. فلا يبدو أن هناك أي داعٍ حقيقي لهذه الأفكار, إلا أنها لا تزال في صعود, بالرغم من أن أي محاولة متواضعة لتمحيص الأسس والمفاهيم التي تقوم عليها هذه الصناعة ستُظهِر ضعف هذه الأفكار وعدم واقعيتها. خذوا مثلا التقرير الذي أعده فريق العمل التابع للسناتور جون فوسكونسيلوس من كاليفورنيا في نهاية الثمانينيات, والذي صدر عام 1990، وأصبح من أهم مراجع صناعة تقدير الذات الحديثة. فقد خَلُص هذا التقرير المعنون (الأهمية الاجتماعية لتقدير الذات) إلى أن التقدير العالي للذات هو لقاح اجتماعي يقي من أهم المشكلات الاجتماعية ويعالجها. ولقد انتُقِد هذا التقرير أشد النقد من المختصين لخلوه من البراهين وبراءته من المنهج العلمي في البحث, حتى أنه ورد في مقدمة التقرير ما يلي: نقلا عن أحد الباحثين قبل الشروع في الدراسة: «إن التقدير العالي للذات عامل مهم جدا في سبب وحل المشكلات الاجتماعية.. كلنا نعلم ذلك.. يبقى إذن أن نسعى لإثبات ذلك بالدراسة والبحث». هل لاحظتم؟ أي أن الوصول للنتيجة سبق البحث! فهل يُعقل إذن أن تُبنى استراتيجيات تعليمية وتربوية ونفسية على هذه الأسس؟ بالتأكيد لا, ولكن هذا ما حدث بالضبط, وثبت فشل هذه الاستراتيجيات في التطبيق, وأظهر مثال هو مجال التعليم. فتركيز المدارس في الولايات المتحدة على رفع تقدير الطلبة لذواتهم بهدف تحسين أدائهم الأكاديمي وتقليل انحرافاتهم (مخدرات, علاقات وتوابعها من حمل غير شرعي وأمراض جنسية, إجرام) لم يثمر إلا انخفاض في مستوى المخرجات التعليمية (وهذا ما يتحدث به المسؤولون والمختصون هناك وأبرزهم الرئيس أوباما) ولم يحل أي من المكشلات السلوكية إن لم يكن زادها كما يرى بعض المراقبون والمتخصصون.. ولكن فلتطمئنوا, هم يثقون بأنفسهم ويقدرونها تقديرا عاليا! دون مبرر؟ نعم, ولكن ما أهمية ذلك؟. وقد يكون من المثير للسخرية ما توصلت له تجارب قام بها أكاديميون وعلماء نفس كمقارنة بين طلبة أمريكيين وآخرين في اليابان وكوريا, تعرضوا لاختبارات موحدة بعد تحضير موحد.. ولا بد أنكم تستطيعون توقع النتيجة, فقد تفوق الآسيويون على الأمريكان بفارق كبير, ولكن الأمريكان تميزوا على الآسيويين في شيء واحد: تقديرهم لأدائهم في الاختبارات! أي أن الأمريكان أعطوا أنفسهم تقديرات عالية وغير متماشية مع أدائهم الفعلي, في حين أن الآسيويين كانوا أقل ثقة في أدائهم .. فأي انفصال عن هذا الواقع؟ أم أنه نوع جديد ومضحك من التفكير الإيجابي؟
وهكذا أدت حركة تقدير الذات self esteem movement إلى حالة من الحساسية المفرطة والخوف من توجيه الأطفال ولفت أنظارهم إلى مواطن الخلل كي يصلحوها بمساعدة الكبار, بل أدت إلى خفض المعايير الأكاديمية في المدارس لتتماشى مع مستوى الطلاب حتى لا يُصدَموا، ويعانوا من سوء التقدير لذواتهم, بدلا من تجهيزهم لمجابهة الحياة التي ستصدمهم لا محالة عدة مرات إن لم يكن أكثر.. فما هم فاعلون عندئذ إن كانوا قد تربوا في هذه المحمِية؟
ولنكمل حديثنا في المقال المقبل عن خطورة الترويج لهذه الأفكار على تصور الفرد لحقوقه وواجباته وعلاقاته بالآخرين. وفي قصة الرجل الذي خان زوجته ومن ثم نصيحة ناثانيل براندن له (الطبيب النفسي الشهير في مجال تقدير الذات وله تأثير كبير) خير مثال يوضح مدى الخلل.. ولكن للمرة القادمة ــ بإذن الله تعالى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي