العقلية العسكرية - الاقتصادية الأمريكية.. من هوفر إلى أوباما
تسلّم الرئيس الأمريكي ''هيربرت هوفر'' إدارة البلاد وهي على أبواب أزمة الكساد العظيم عندما وصل إلى الحكم عام 1929 لكنه أدرك حجم المشكلات المالية التي يواجهها المجتمع الأمريكي ولم يتردد في حل المعضلة الاقتصادية بأي أسلوب كان سواء كان اقتصاديا أو عسكريا, وجرب في البداية الحل الأول وحثّ البنك المركزي على التدخل لرفع أسعار الفائدة من أجل تقليص حجم الإقراض وقام بخفض الضرائب, لكن بعد أن زاد عجز الميزانية الفيدرالية بسبب هذا الخفض عمد الرئيس إلى ترك الاقتصاد يعمل أتوماتيكيا على طريقة اليد الخفية لآدم سميث الأمر الذي فاقم الأزمة, فلم تستطع الحكومة الأمريكية أن تقف مكتوفة الأيدي وتدخلت في طرح مشاريع ذات تمويل حكومي، وأدى ذلك لأن تكون الضرائب الأمريكية هي الأكبر عبئا على المواطن الأمريكي ومع ذلك لم يفلح الرئيس هوفر في انتشال البلاد من الكساد, إلا أنه قال: ''أن هذا الانهيار سيطهر النظام من الفساد وستنخفض تكلفة المعيشة وسيعمل الناس بجهد أكبر وسيحيا الناس حياة أكثر استقامة، كما أنّ القيم ستتعدّل وسيأخذ المبادرة أشخاص أكفاء بدل الأشخاص الفاشلين'', لكن الأمور لم تتحسن ولم يبق سوى الحل العسكري, ثم جاءت الحرب العالمية الثانية وكانت بمثابة المنقذ في اللحظة الأخيرة أي أنها كانت قرارا عسكريا أريد به نصر اقتصادي, ومع التركيز على التصنيع الحربي انتعشت المصانع الأمريكية في تغطية طلب الحلفاء للمنتوجات العسكرية واللوجستية وفتح ذلك الباب لأمريكا لأن تخرج من عنق الزجاجة بازدهار اقتصادي غير متوقع, إنه التدخل العسكري في الشؤون الاقتصادية, كانت فترة العشرينيات في أمريكا تعد فترة ازدهار ونمو سريعين زاد فيها الدخل الحقيقي للأمريكيين بنسبة 3.4 في المائة سنويًا إلاّ أنّ الاستدانة كانت سيدة الموقف, وما أشبه الليلة بالبارحة فبعد أن بدت الأزمة المالية للرئيس هوفر كما هي الآن بالنسبة للرئيس أوباما وكأنهما بعثا خصيصا لانتشال البلاد من ورطتيها من كل حسب كفاءته, فهل سار أوباما فعلا على نهج سلفه في الزمن الغابر؟ ولأن الصفقة الجديدة الأوبامية ستكون عبارة عن مجموعة مشاريع حكومية تستثمر في البنى التحتية بمفهومها في القرن الـ 21 وما ستتطلبه من أيد عاملة في المجالات كافة, أوجه الشبه بين أزمة عام 1929 والأزمة التي نعايشها والتي حصلت عام 2008 أولها هو النموّ الكبير في القروض التي توافّرت لكلّ شيء إن كان لأغراض استثمارية أو فقط للمتعة, في العشرينيات كانت هذه النسب منخفضة إلى حدّ كان يشجع المصارف والجهات المدينة إلى زيادة تلك القروض للتعويض عن نسب الأرباح المنخفضة, ونتيجة ذلك كانت طفرة في المشاريع الإعمارية حول العالم وفي المدن الأمريكية الأساسية ممولة من قبل البنوك كما كان سيل الرهونات السكنية تمامًا مثلما حصل أخيرا في الأزمة الحالية, وعندما انهارت الأسواق واستفحلت الأزمة الاقتصادية وجد أصحاب القروض أنفسهم مثقلين بمبالغ كبيرة من الديون مقابل ممتلكات منخفضة القيمة, إنها دورات زمنية اقتصادية وهو التاريخ الاقتصادي الذي يعيد نفسه - بمشيئة الله وحده - ولا علاقة له بيد آدم سميث أو يد أوباما, ومنذ أن ضُرب مركز التجارة العالمي والاقتصاد الأمريكي يتلقى الضربة تلو الأخرى وكأن هناك من يعمل ضده انتقاما في الخفاء فمن خسائر باهظة في سوق الأسهم الأمريكية إلى إفلاس شركات الطيران وتسريح مئات الآلاف من العاملين إلى أزمة الرهن العقاري وانهيارات المصارف، كل هذا أدخل الاقتصاد الأمريكي في متاهات ودروب وعرة، وآخر ما قرأنا هو خبر إغلاق السلطات الأمريكية سبعة بنوك أخرى تضررت بشدة في أعقاب الأزمة المالية العالمية الحالية ما رفع إجمالي عدد البنوك الأمريكية التي أغلقت أبوابها العام الجاري إلى 52 بنكا, فالحكومة الأمريكية ليس أمامها سوى اللعب على أوتار مختلفة وأن تتذرع بذرائع أخرى فالغاية عندها تبرر الوسيلة حتى تعيد ترتيب أوراقها وتسلك طرقا شتى اعتادت على سلوكها وأولها طرق العساكر والحروب ولا ضير إن كانت هذه الطرق تسد العجز في الميزانية وتسهم في ملحلة بقية المشكلات المترتبة على ذلك, وسواء كانت الإجراءات المتبعة اقتصادية أو سياسية فكل الطرق يجب أن تؤدي إلى الرخاء الأمريكي ولا يهم من يدفع ثمنها, لذلك لم تتردد الولايات المتحدة في إشغال شعوب منطقتنا وتمزيقها في دوامة صراعات مختلفة ويأتي في مقدمة ذلك الشعب الفلسطيني وإلهاء الأشقاء بالصراع فيما بينهم حتى تستعيد إسرائيل أنفاسها وتعيد ترتيب أوراقها وبذلك تحكم أمريكا قبضتها على دول المنطقة العربية عسكريا بعدها تستطيع أن تمرر ما أرادت من نظريات ورؤى اقتصادية, وفي حين لم تبد لهم أي نقطة أنسب للبداية من العراق فالنظام الحاكم فيه كان مكروها شعبياً ومنبوذا إقليمياً ومحاصرا ومتهما عالمياً، كل هذه العوامل جعلته فرصة للانطلاق وتفريغ الإخفاقات الأمريكية بجميع أشكالها, فبعد أن فرضت عقوباتها الاقتصادية عليه انفردت باحتلاله, فهي إذن فرصتها للسيطرة المباشرة على مصادر الطاقة قبل أن تنشأ قوى أخرى تنازعها على ذلك أو لا تسمح لها بالتفرد بالسيطرة كأوروبا الموحدة التي تقودها فرنسا وألمانيا أو الصين، وتحت هاجس الخوف من التحالف بينهم جميعا أو التآمر عليها جاء الاحتلال الأمريكي للعراق, وقد تصور صانعو القرار الأمريكي أن الحرب هي المخرج الوحيد لاقتصاداتهم المنهارة وهو الطريق الذي اعتادوه منذ الرئيس الأمريكي الأسبق هوفر وإشعال فتيل الحرب العالمية الثانية لتكون مخرجا للكساد ونجحوا في ذلك, لكنهم فوجئوا بالأزمة المالية العالمية تنخر اقتصادهم من جديد, علاوة على أن أوضاع اليوم تختلف عن الأمس ودماء الشعوب ومصالحها لم تعد أوراقا ملقاة على طاولة قمار الاقتصادي الأمريكي, الحرب عادة ما تكون مُنشطة ومنعشة للدول التي هي على غرار أمريكا ويزداد الخطر عليها في هذه الفترة بسبب ظهور الاقتصادات الصاعدة ذات النفوذ القوي كاليابان والصين والهند وروسيا وهم على نقيض الأمريكيين غالبا ما يكونوا ملتزمين بسداد الديون, وإذا نجح هؤلاء لأي سبب من الأسباب وانخفضت نسب التعامل مع الدولار, وفي ظل القروض الهائلة التي تتحملها أمريكا والتي هي لا تزيد عن احتسابها قروض معدومة سلفا, وفي ظل توريط الأمريكان أيضا لدول مختلفة وإجبارها على دفع فواتير الحروب, فإن ما جرى هو خلط الأمور الاقتصادية بالعسكرية, وخصوصا أن تجارة السلاح كانت ولا تزال من التجارات الرائجة، وقد تطورت كثيراً وبلغت أرقاماً خيالية, وحتى تبقى الدول الرأسمالية الصناعية مسيطرة على مقدرات المنطقة وقادرة على تهديد أمن أي دولة تحاول شق عصا الطاعة أو تنحو إلى بسط سيطرتها على مواردها الطبيعية بما يضمن مصلحتها الوطنية, وإذا كان الأمريكيون قد اختلقوا الحرب العالمية الثانية من أجل إنقاذ اقتصادهم, فأي حرب قد اختلقوا في هذه المرحلة؟ هل هي تأجيج الصراع العربي - الإسرائيلي أم التلاعب بقضية احتلال العراق التي قامت على الإشاعة التي بثتها أمريكا وأعلنت أن هدفها من الحرب هو نزع أسلحة الدمار الشامل في العراق حتى لا يشكل خطراً على أي من جيرانه، من هنا ندرك لماذا كانت المعارضة الشديدة لحرب أمريكا على العراق من ألمانيا وفرنسا اللتين سعيتا جاهدتين لإقامة أوروبا الموحدة اقتصاديا بمنأى عن أمريكا، القضية الاقتصادية الأهم بالنسبة للغرب وأمريكا هي معركة البترول، فالقرن الـ 21 لا أظن أنه سيختلف كثيرا عن القرن الـ 20 في قضية الصراع على الطاقة النفطية, وقد حاول الأمريكيون منذ عام 1973 أن يجدوا بدائل أخرى من أجل أن يحبكوا الموضوع بصورة أكبر لصالحهم دون جدوى, وكلنا أو معظمنا يذكر موقف الملك فيصل بن عبد العزيز عام 1973 عندما واجه الأمريكيين بالقول: ''إذا أردتم زيادة إنتاجنا للنفط فلا بد أن تعالجوا القضايا التي نعانيها وهي إنهاء الاحتلال الإسرائيلي'', وعندما وقعت الحرب كان الوقت مناسبا لوضع حظر نفطي تناسب مع قيمة الحدث, وبدا الهدف واضحا من قطع النفط وهو إيصال رسالة اقتصادية إلى أمريكا وقد تمكن الملك فيصل بقراره أن ينقذ الأمتين العربية والإسلامية وأن ينتشل السعودية بشكل خاص اقتصاديا وإداريا ورفع اسمها وأسبغ عليها نفوذا وهيبة واحتراما على المستوى العربي والإسلامي والعالمي, فالاقتصاد الأمريكي هو اقتصاد عسكرة وحرب ويعرف هذه اللغة جيدا, أما في الوقت الحاضر فإن الضربة التي تلقاها الاقتصاد الأمريكي قد أثرت بلا شك في اقتصاد كل دول العالم وفي مقدمتها إسرائيل التي تعتمد بشكل كبير في صادراتها على الولايات المتحدة, وتزود الدول الغربية إسرائيل بالأسلحة المتطورة في حين تمنع بيعها للدول العربية من أجل المحافظة على التفوق العسكري الإسرائيلي كمّاً ونوعاً, كل ذلك جعل إسرائيل تزيد في غيها لأنها ستتسلم تعويضاتها المالية عن كل حرب تخوضها من خزانة الدول العربية ولو عن طريق أمريكا, العقلية العسكرية - الاقتصادية الأمريكية لم تختلف منذ الكساد الاقتصادي العالمي في عهد الرئيس هوفر في الثلاثينيات حتى الأزمة المالية العالمية في عهد الرئيس أوباما في القرن الـ 21, في غضون هذا التاريخ الممتد تعدد الرؤساء والشر واحد.