هذا هو البلاء وندعو الله أن يرفعه
من يقرأ أخبار اليوم وكل يوم من هذه الأيام, لا يكاد يحكم على الفاعلين في سياسات بعض الأمم أو من هم في سدة سياساتها الخارجية, إلا بقصر النظر والغرضية الذاتية, أو يصنفهم ضمن المحمومين بحمى النرجسية القومية والحالمين بسيطرة غالبة على الآخرين, وهذا يذكرني بتصرفات مراهقي الحارات, التي كانت سائدة لدينا وكل دول العالم. فالفتوة هي الأداة والحلم هو السيطرة وفرض الذات, بغض النظر عن النتيجة, ولو حكّم أي منهم العقل لوجد مصالحة أكبر في الاتفاق بدلاً من الصراع.
كوريا الشمالية تطور سلاحاً نووياً وكذلك تزمع إيران, والسؤال لأي منهما, من تريد أن ترهب أو تخضع لسطوتها؟ كوريا الشمالية بلد جائع، فضلاً عن قدرته على شن حرب واحتلال بلد آخر أو ضمه (يفترض كوريا الجنوبية)، مع العلم أن عدد سكان كوريا الشمالية 22 مليونا ومعدل دخل الفرد فيها 1700 دولار أمريكي سنوياً, أما الجنوبية فعدد سكانها 48 مليونا ومعدل دخل الفرد فيها 19500 دولار أمريكي سنوياً. الكوريون الجنوبيون أفضل حياة واقتصادا والعاقل فيهم يدرك أن ما هو عليه أفضل من وعود الاشتراكيين أو الشيوعيين الذين أثبتوا بالمثال الماثل في جارتهم الشمالية كساد تجارتهم, إذاً ماذا يريد الشماليون؟ هل يريدون إثبات أن تجربتهم أفضل على الرغم من الحقيقة الماثلة في ثراء جارتهم وإفلاس اقتصادهم, وكلا البلدين خرجا من حرب طاحنة عام 1956 وبقناعة أن كلا منهما لن يكون قادرا على ضم الآخر في كيانه, ومنذ ذلك التاريخ أغدق السوفييت على الشماليين كل ما يحتاجون إليه حتى ركنوا لذلك, وبعد أن تشتت الكيان السوفييتي فقدت كوريا الشمالية ضمانها الاجتماعي، وهي غير قادرة على تكوين ميزة اقتصادية سوى العودة إلى سياسة الابتزاز بالتهديد والوعيد والفتوة الفارغة, أما الجنوبيون فقد اعتمدوا على أنفسهم منذ البداية، ولا شك أن حصانهم كبا بعض الكبوات ولكنه في كل مرة ينهض أقوى من ذي قبل.
أما جارتنا العزيزة إيران فقد منيت بذوي أحلام لا تمت للواقع بصلة، بل هي أصداء نداءات الماضي السحيق حين كانت إيران مهد الإمبراطورية الفارسية الساسانية . فما تقوم به إيران الدولة من تمدد في تدخلاتها وتلويحات بتهديد البعيد فضلاً عن القريب, يمثل انقلابا على أساسيات المذهب الشيعي (المذهب الرسمي للدولة) والذي أحد أكبر مقوماته الفكرية الإمامة الغائبة والانتصار لمظلومية آل البيت. والمعروف في أدبيات الفكر الشيعي الحديث أن ولاية الفقيه هي ولاية تصريف وإدارة بمضنون الإخلاص لرغبة الإمام المنتظر الذي سيحكم الأرض بالعدل والقسطاس, فكيف يكون ذلك متسقا مع فكر عدواني الميول تجاه كل ما هو مختلف معه. إن ما يريده الساسة الحاكمون في إيران هو جر المجتمع الشيعي برمته لفكرة سياسة لا علاقة لها بنصرة أهل البيت والذود عن حياض الملة, تتمثل بجعل إيران محور الاستقطاب السياسي في الشرق الأوسط حتى تهيمن على التأثير الاستراتيجي العظيم للمنطقة, وأداتها في ذلك ليس قوة اقتصادها أو بنيتها الكيانية المتينة التي يعتمد عليها ولكن على حفنة من المتفرقعات النووية التي بها تكتسب قوة إرهابية.
لقد بلينا نحن باقي خلق الله في بقاع أرضه, وعلينا أن نتحمل حماقات وطموحات من هم أقلنا رغبة في تنمية الأرض والاهتمام بها وجعلها مكانا أفضل للحياة, وأصبحنا رهن تطلعاتهم المتكونة من آثار خلفيات تربوية خاطئة, فالتاريخ بين لنا أن كثيرا من السياسيين الذين حكموا تلك الأمم التي جرعت البشرية مرارات العذاب وارتكبت المذابح, هم من أولئك الأقل في الاهتمام الأسري والأكثر اضطراباً في نموهم الفكري, لذا سلكوا طرقاً تبرزهم ضمن محيطهم بالجهد بتبني تطلعات المخذولين في مجتمعاتهم, والذين يمثلون الأكثرية في الأمم المتأخرة, وبنوا شعبيتهم على نقد القائم الممقوت وحرصوا على تحقيق السيادة, وبعد أن تحققت لهم تلك السيادة وجدناهم أشخاصا فارغين من الرؤية التطلعية لبناء أممهم ومغرقين في أحلام إمبريالية قائمة على تأجيج عداوة مع الجيران بحجة وجود خلافات لم تحسم أو هي حسمت بما لا ترضى به طموحاتهم, هؤلاء الأشخاص أفنوا فكرهم في هم الصعود لقمة القيادة وهي مبتغاهم وبات عندها هم الحفاظ عليها، وليس أفضل وسيلة لذلك من ذات الطريقة التي بها صعدوا تلك القمة, لذا نجدهم يضيفون هموم عداوات جديدة لأممهم وتصوير صراعات مع أعداء هم خلقوها, ولا شيء لتنمية تلك الأمة المبتلاة بهم. فمنذ عام 1956 وكوريا الشمالية أفقر كل يوم تخطوه للمستقبل, وإيران منذ 1979 وهي نمر من ورق وكيانها الاقتصادي والاجتماعي متآكل, ومن يريد أن يجادل ذلك, فليذهب إلى كوريا الشمالية أو إيران ويجول في الضواحي وسيعرف أن ساساتها يلعبون البوكر في شعوبها.