القانون الواجب التطبيق على الأوراق المالية

في مقالة بعنوان «حالات الإخفاق تكشف عن المخاطر القانونية للصكوك»، المنشور في جريدة «الشرق الأوسط» بتاريخ 14/7/1430هـ الموافق 7/7/2009، أشار الأستاذ لاحم الناصر إلى أن غالبية إصدارات الصكوك التي تخضع لأحكام الشريعة الإسلامية في هيكلتها وعقودها تنص على أن الاختصاص القضائي هو للمحاكم البريطانية، وأن القانون المحكم هو القانون البريطاني على ألا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.
وتساءل الكاتب كيف سيتعامل القضاء مع حالات التعارض بين الشريعة الإسلامية والقانون البريطاني؟ ومدى إلزامية شرط عدم تعارض الأحكام مع الشريعة الإسلامية للقضاء؟...
إن هذه التساؤلات وغيرها من التساؤلات الأخرى التي أثارها الكاتب عالجها فقه القانون الدولي الخاص، وأشير في هذا الخصوص إلى كتاب «تنازع القوانين» للدكتور هشام علي صادق الأستاذ في كلية الحقوق في جامعة الإسكندرية، حيث تناول في هذا الكتاب الاتجاهات الفقهية الدولية بشأن القانون الواجب التطبيق على الأوراق المالية مثل الأسهم والسندات، وأوضح أن الفقه الدولي يفرق في هذا الشأن بين الأوراق المالية لحاملها والأوراق المالية الاسمية.
فبالنسبة إلى الأوراق لحاملها فإنها تخضع وفقا للرأي الغالب لقانون موقعها وقت تحقق السبب الناقل للحق والدين الثابت فيها أسوة بالمنقولات المادية، أي أن قانون الموقع يطبق على عمليات تداول الأسهم والسندات لحاملها، أما الجانب التعاقدي فهو يخضع لقانون الإرادة وفقا للمبادئ العامة (أي القانون الذي حددته إرادة أطراف العلاقة التعاقدية).
أما العلاقة بين حائز السهم أو السند والجهة التي أصدرته فتخضع للقانون الذي يحكم هذه الجهة، فقانون الدولة الذي يحكم الشركة التي أصدرت الورقة المالية لحاملها هو الذي يسري على العلاقة بينها وبين حامل الصك.
أما الأوراق المالية الاسمية، فقد رأى بعض فقهاء القانون الدولي الخاص خضوعها لقانون الجهة التي أصدرتها، أي قانون البلد الذي يوجد فيه مركز إدارة الجهة التي أصدرت هذه الأوراق، فهذا القانون هو الذي يسري على انتقال الحقوق الثابتة في الأوراق المالية الاسمية.
ويفضل بعض فقهاء القانون الدولي الخاص إخضاع انتقال الديون والحقوق الثابتة في الأوراق المالية الاسمية لقانون الدولة التي يوجد بها سجل الشركة المخصص لقيد عمليات التنازل عن هذه الأوراق وتداولها، وهو غالبا قانون الدولة التي يوجد في إقليمها مركز الإدارة الرئيسي.
ويشير الدكتور هشام صادق إلى أن بعض الفقهاء يفرقون بين السهم والسند، فالسهم هو الذي يخضع للقانون الذي يحكم النظام القانوني للشخص المعنوي الذي أصدره. ذلك أن السهم هو حصة الشريك، فيكون طبيعيا إذن أن يحكمه القانون الذي يحكم الشركة.
أما بالنسبة إلى السندات فيرى هؤلاء الفقهاء إخضاع العلاقة بين صاحب السند والشركة التي أصدرته، وكذلك العلاقة بين هذه الأخيرة ومن انتقل إليه الحق في السند، لقانون الإرادة، أي القانون المختار من أصحاب العلاقة باعتبار أن أساس هذه العلاقة هو عقد قرض يخضع للقانون الذي يحكم الالتزامات التعاقدية. ومع ذلك فقد تخضع العلاقة للقانون الذي يحكم النظام القانوني للشركة، باعتبار أنه القانون الذي يفترض اتجاه إرادة المتعاقدين إلى اختياره، وذلك فيما لو سكت هؤلاء عن تحديد القانون الواجب التطبيق، وتعذر استخلاص إرادتهم الضمنية في اختيار قانون معين.
تبقى العلاقة بين صاحب السند ومن انتقل إليه الحق فيه، وهذه تخضع بدورها لقانون الإرادة بوصفها علاقة تعاقدية. على أنه يلاحظ أن قانون الإرادة لا يسري إلا على الالتزامات المتبادلة بين المتعاقدين، إذ تنطبق القواعد الخاصة بالتداول في البورصة في جميع الأحوال بوصفها من القواعد العامة المتعلقة بالنظام العام.
تلك بصفة عامة اتجاهات فقهاء القانون الدولي الخاص حيال القانون الواجب التطبيق على الأوراق المالية، وننتقل الآن إلى محاولة الإجابة عن التساؤل الخاص بمدى إلزامية الاشتراط الوارد في غالبية الصكوك المالية الإسلامية بخضوعها للقانون الإنجليزي بشرط عدم التعارض مع الشريعة الإسلامية. فنقول لقد حدد القضاء البريطاني موقفه في هذا الشأن في قضية شهيرة أشار إليها الزميل المحامي عدلي حماد في مقاله المنشور في جريدة «الاقتصادية» بتاريخ 15/3/2005 بعنوان «تطبيق الشريعة الإسلامية على العقود الدولية.. كيف؟»، حيث أوضح أن بنك شامل البحريني رفع دعوى ضد شركة ليكسمو للأدوية، حيث طالب البنك بإلزام الشركة المدعى عليها بدفع قيمة الأقساط المستحقة بموجب عقد الإجارة المبرم بينهما، التي تقدر بمبلغ 47 مليون دولار ودفعت الشركة المدعى عليها أن أقساط الإجارة تتضمن فوائد ربوية مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية، حيث نص العقد على أن القانون الواجب التطبيق على العقد هو أحكام الشريعة الإسلامية والقانون الإنجليزي. وقررت المحكمة البريطانية أن التفسير الصحيح لشرط القانون الواجب التطبيق هو أن القانون الإنجليزي وحده هو القانون الواجب التطبيق وليس أحكام الشريعة الإسلامية. وقد استأنفت الشركة المدعى عليها الحكم زاعمة أنه لا يصح أن يكون القانون الإنجليزي وحده هو القانون الصالح للتطبيق على العقد، وأن نية الطرفين اتجهت إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على عقد الإجارة لكونه من عقود التمويل الإسلامي وتحت مظلة القانون الإنجليزي باعتباره قانون الدولة محل تنفيذ العقد.
وأوضح الأستاذ عدلي حماد في مقاله المذكور أن محكمة الاستئناف البريطانية أيّدت ما انتهت إليه المحكمة الابتدائية إلى أن القانون الإنجليزي هو القانون الوحيد الواجب التطبيق على العقد محل النزاع. وأكدت أن مبدأ «الإدخال» يمكن أن يطبق في حالة الاتفاق الصريح من أطراف العقد على تطبيق مواد محددة من قانون أجنبي أو معاهدة دولية مثل مواد محددة من القانون المدني الفرنسي أو معاهدة لاهاي.
واعتبرت المحكمة أن إشارة العقد إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية لا يعطي أي تحديد واضح إلى القواعد الشرعية التي تم اختيارها (للاندماج) مع شروط العقد.
وفسرت المحكمة قرارها بأن مجرد النص على أن العقد يخضع لأحكام الشريعة الإسلامية كان مجرد إشارة إلى أن كون بنك شامل كبنك إسلامي خاضع في تعاملاته لأحكام الشريعة الإسلامية وليس إلى استخدام أحكام الشريعة الإسلامية كقانون للتطبيق على العلاقات التي تنشأ بين أطراف العقد.
والواقع أن منطق القضاء البريطاني في هذا الصدد لا ينهض على أساس سليم، ذلك أن القول إن إشارة العقد إلى تطبيق أحكام الشريعة لا يعطي أي تحديد واضح إلى القواعد الشرعية التي تم اختيارها للاندماج مع شروط العقد ينطبق أيضا على إشارة العقد إلى تطبيق القانون البريطاني، فهي أيضا لا تعطي أي تحديد واضح لأحكام القانون الإنجليزي التي تم اختيارها للاندماج مع شروط العقد.
ومهما يكن من أمر فإن الحكم المذكور قد وضع سابقة قضائية في بريطانيا قررت أن النص في عقود وصكوك التمويل الإسلامي وأن القانون الواجب التطبيق هو القانون الإنجليزي والشريعة الإسلامية معا أو القانون الإنجليزي بشرط عدم التعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية ليس ملزما للقضاء البريطاني الذي يعتبر القانون الإنجليزي في هذه الحالة هو القانون الوحيد الواجب التطبيق باعتباره قانون القاضي الذي يتولى الفصل في الدعوى المطروحة أمامه، فضلا عن كونه القانون الذي اتجهت إليه إرادة أطراف العلاقة التعاقدية. ولعل البديل الأكثر ملاءمة هو النص بأن الجوانب الشكلية والإجرائية للعلاقة التعاقدية تخضع لقانون دولة إبرام العقد أو قانون الدولة الذي يحكم الجهة التي أصدرت الصكوك المالية، أما الجوانب الموضوعية فتخضع لأحكام الشريعة الإسلامية وفقا لمذهب معين (المذهب الحنبلي مثلا) وقرارات المجامع الفقهية الإسلامية ذات الصلة بالنزاع مثل المجمع الفقهي الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي والمجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي.
ولمواجهة الفراغ التشريعي في مجال الصكوك الإسلامية، فقد سبق لكاتب هذه السطور أن دعا هيئة سوق المال السعودية إلى أن تسعى إلى استصدار قانون مستمد من الشريعة الإسلامية ينظم ويحكم الصكوك الإسلامية التي سمحت بطرحها وتداولها في السوق المال السعودية.
والمأمول أن تستجيب الهيئة لهذه الدعوة فلا تترك هذه الصكوك دون قانون ينظمها ويحكمها من شتى جوانبها المختلفة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي