دعم قطاع الخدمات أهم استراتيجية اقتصادية

ثورة الصناعة أحدثت ضجة في العالم وتمحور حولها كل أنواع الدعم الحكومي من توفير للتمويل ومن توجيه للتعليم ودعم للبحوث والتطوير. كان هذا قد حدث في العالم الصناعي في أوائل القرن الماضي. واستمرت الموجة ولا تزال مستمرة في الدول النامية التي لا تزال تعتقد أن الصناعة هي الطريق الوحيد للتنمية، مع أن هذا التوجه بدأ في الانحسار في كثير من دول العالم الصناعي - بريطانيا وأمريكا مثلا - وفي الدول الخلاقة والمبدعة التي اخترقت الصفوف بكل عنفوان - سنغافورة والهند أخيرا - وذلك بفضل بزوغ نجم القطاع الخدماتي الذي بدأ يتشكل في أواخر السنوات الماضية بشكل متسارع بفضل القدرة على إيصاله بسهولة، وبفضل ارتفاع المهنية في تقديمه، وبالتالي ازدياد الموثوقية فيه، وبفضل القدرة على اختراقه من العصاميين الذي أعادوا صياغة المعادلة الاقتصادية بشكل أبهر التقليدين وأخرسهم، وأخيرا بفضل الدعم الحكومي الذي أدرك مكامن الروعة في هذا القطاع، ولا سيما في تعميق وزيادة الشريحة المتوسطة التي يمكن لها الدخول في هذا القطاع بكل سهولة وتوطين القرى والأرياف.
للأسف، يبدو أننا لا نزال متمسكين بالنظرة التقليدية الداعمة للصناعة والمغيبة للقطاع الخدمي. الدليل انظروا إلى الحجم الهائل اللا محدود الذي تقدمه الدولة من دعم لهذا القطاع وقارنوه بما يقدم للخدمات. ولنأخذ الذراع التمويلية الحكومية صندوق التنمية الصناعي لقطاع الصناعة ونقارنه بكل ما يقدم من دعم للقطاع الخدماتي. فقد قدم الصندوق في العام الماضي 3.6 مليار للصناعات الكيميائية لـ 32 مصنعا، من بينها مصنع جديد قدم له مبلغ 600 مليون ريال وآخر لتوسعة مصنع قائم بـ 600 مليون ريال، مع العلم أنه تم صرف أكثر من 25 مليارا منذ تأسيس الصندوق على هذا القطاع. الصناعات الاستهلاكية أخذت أكثر من 12 مليارا منذ تأسيس الصندوق وفي العام الماضي استحوذت على مبلغ 849 مليون ريال. ''الأسمنت'' أخذ منذ تأسيس الصندوق أكثر من ثمانية مليارات والعام الماضي نال 1.6 مليار. كلها صناعات - ولن أدخل في شؤونها البيئية أو من يستفيد من دعمها أو أوجه دعمها المختلفة غير القروض المجانية - ولكن الأسئلة التي تثير أنفسها هي: هل حقق هذا الدعم ما نصبو إليه من أهداف تنموية؟ ماذا لو أن هذا الدعم تم ضخه في قطاع الخدمات، هل ستكون المخرجات هي ذاتها؟ وهل يفترض أن هذه الأموال تستمر في التدفق بهذه الكثافة في هذا القطاع دون غيره؟ منذ عام 1394، أي منذ أكثر من 35 عاما والصندوق يقرض بلا توقف حتى في أحلك الظروف وأشدها وطأة، والنتيجة اليوم لا تبدو مبهجة بالشكل الذي نطمح إليه، حتى وإن لم تكن محبطة، فمثلا، هل أسهم الزخم الإقراضي في خلق طبقة عاملة سعودية؟ هل استوعب الشباب السعودي وخلق فرص عمل؟ هل أسهم في اتساع الشريحة المتوسطة؟ هل ساعد في نمو المؤسسات الصغيرة أو المتوسطة - التي بالمناسبة لا تزال تتلقى فتات الفتات، فمجموع ما قدمه لها الصندوق مجرد ''كفالة'' بقيمة إجمالية قدرها 118 مليون ريال، وهو ما يستحق النقاش في يوم آخر؛ ولا ننسى عصا وزارة العمل وجزرة دفع الرواتب التي تدفعها الحكومة. مع الأسف، كل ما أمكن تقديمه هو المفاخرة بزيادة الصادرات غير النفطية مثل الأسمدة والصناعات البتروكيماوية - وكلها تتكئ بشكل تام على النفط ومع هذا نقول صادرات غير نفطية! المهم، في مقابل كل هذا، كم مليار تم تقديمه للقطاع الخدمي؟ كم ''مليارا'' قدمته الدولة للمستشفيات؟ للسياحة؟ للتعليم؟ للأعمال المهنية كالمحاسبة أو المحاماة أو الهندسية؟
لن أستطرد في الأمثلة فهي متعددة ولكن سأقتصر فقط على قطاع السياحة. رغم أنها لا تؤخذ على محمل الجد لأننا جميعا نسافر أو نتطلع للسفر خارج المملكة في الصيف، إلا أن هذا لا يعني أن المملكة فقيرة سياحيا، فأولا ليس بالضرورة أن نكون قبلة ''صيفية'' للسياحة. وثانيا، قياس السياحة على ذائقة الساكن المحلي قياس خاطئ لأن النفس ميالة لاستكشاف الجديد، فالعشب في الضفة الأخرى أكثر اخضرارا، ولكن كما نشعر بها، فغيرنا يشعر بذات الشيء، ولهذا فهناك من هو مستعد لإمضاء جزء من وقته سياحة هنا، بل هناك من يتطلع لسياحة طويلة، فعلى المستوى الشخصي اتصل بي شخصان، من أثرياء إحدى الدول العربية يطلبان مني بحث إمكانية توفير إقامة طويلة جوار الحرم النبوي فقط لا غير مع استعدادهما لدفع كل المصروفات والتكاليف وأية رسوم تطلبها الدولة (وبالمناسبة هناك شيء اسمه فيزا تقاعد أتمنى لو تمت دراسة الاستفادة منها). المهم، لو تم التركيز على دعم السياحة لفترة خمس سنوات فقط بدعم مالي (مثلا لو تم تحويل مسار ما يخصص لقطاع الأسمنت من قروض أو لمصنع واحد قدم له 600 مليون)، ولوجستي (بنى تحتية وأنظمة تشريعية بشكل سريع بدلا من الانتظار سنوات عديدة لاستصدار التنظيمات اللازمة) لتشكلت لدينا صناعة خدماتية هائلة قادرة على أن تكون رافدا مهما لإنعاش اقتصادنا وخلق تنمية حقيقية ورفد موارد الاقتصاد وتوسيع الشريحتين الصغيرة والمتوسطة - يروي سمو الأمير سلطان بن سلمان قصة سيدة تعمل في قطاع السياحة كحرفية، استوقفته في إحدى جولاته لتفاجئه بشرح وضعها حيث ذكرت أن زوجها مَدين بسبعين ألف ريال مما جعل الأرض تضيق بهم، وأصبحوا لا يعرفون كيف يقضون ما عليهم من دين - يقول الأمير ظننتها تريد طلب مساعدة ولكنها استرسلت قائلة: ''ولكن بعد أن فتح الله باب السياحة وتكاثر الزائرون على ''خيمتنا'' لشراء ما أحيكه أنا وبناتي في ''العلا''، سددنا الدين واشترينا سيارة ولدينا ما يكفينا نوائب الدهر من عرق جبيني الشريف''. قصة من عشرات القصص التي يمكن أن تنثر بذورها في كل زوايا مملكتنا الحبيبة لو اقتنعنا بإمكانات رجالنا ونسائنا، فلدينا تنوع جميل كأحجار الموزاييك، من المناطق الدينية إلى الآثار التاريخية، والسواحل الشيقة، والبراري المريحة للأعصاب. أعتقد أن اللحظة سانحة للتركيز على السياحة واعتبارها ''صناعة'' رضيعة تستحق الدعم لفترة محددة بخمس سنوات، عبر منح القروض للمستثمرين في الأنشطة السياحية الرئيسية - كالفنادق أو المنتجعات والمشاريع الترفيهية والحرفية مثلا - وتسهيل الإجراءات للمستثمرين وتوفير البنية التحتية اللازمة كالكهرباء والطرق وفتح الأجواء وتسهيل استصدار الفيزا.. إلخ. خمس سنوات ثم نتوقف. ربما ننجح بإبهار، وربما تكون كالأسمنت مثلا، ولكن الأهم ألا نضيع فرصة كامنة من الممكن أن تكون كنزا نحن في سبات عميق عن استكشافه.
أعتقد أن الوقت قد حان لتغيير بوصلة الدعم بدلا من تركزها على جهة وحيدة بشكل مكثف وترك الفتات للبقية. بالطبع لا يعني هذا قطع الماء والكهرباء عن الصناعة. بل يعني ضرورة إيجاد توازن في دعم قطاع الخدمات بانتقاء مدروس بدلا من تجميع كل البيض في سلة واحدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي