الثقافة ودورها في الشعور الجمعي بالدونية
على غير الموجودات الأخرى والكائنات التي تشاركنا العيش على هذا الكوكب, تعد الثقافة من خصوصيات الإنسان, فالثقافة هي التي تتكفل بتفعيل أو تعطيل ما عند الإنسان من قيم ومبادئ ومعان وغرائز وشهوات, وبالتالي فالإنسان يعيش حياته حسبما تمليه عليه ثقافته, فقد تصنع الثقافة منا أناسا همتهم عالية لا يرضيهم العيش إلا بالشكل الذي يعبر عن إنسانيتهم, وقد تجعل الثقافة منا أناسا تستنكف حتى الحيوانات من العيش معنا لأن ما عندها من هدى فطري وغرائزي يجعلها أرفع بكثير من إنسان قد انتزعت منه إنسانيته.
فللثقافة الدور الأكبر في تحديد قيمة الإنسان لنفسه, وفي إطار ما يعطيه الإنسان من قيمة لنفسه تتحد قيمته للأشياء والأفعال والسلوكيات والمواقف والمعاني التي تختزنها الحياة, فقيمة الحياة تتحدد بقيمة الإنسان لنفسه والثقافة هي التي بها يحدد الإنسان قيمته لنفسه. فعندما نجد أن الزمن لا قيمة له عندنا, وعندما نرى أن الأخلاق مثاليات لا جدوى منها, وعندما نكتشف أننا لا نعرف ما أولوياتنا, وعندما نمارس العشوائية في إدارة مواردنا, وعندما لا نعير بالا لحاضرنا ولا نأخذ العبرة من ماضينا ولا نعد العدة لمستقبلنا, وعندما نخاطر بوحدة مجتمعنا وسلامته, وعندما تستولي الهوامش والتوافه من قضايانا على تفكيرنا لتشغلنا عما يستوجبه واقعنا, وعندما نرتفع بما أنتجه المجتمع من عادات وتقاليد إلى مصاف ثوابتنا ومقدساتنا, وعندما نسارع بتحويل الاختلاف في الآراء والاجتهادات إلى خلاف ونزاع واصطدام وشحن وكراهية وبغضاء ومشاعر ملتهبة ومواقف متشنجة, وعندما ننشغل بالتنظير ونتفاعل مع الأحلام ونستثار بالخطب والأقوال ونتقاعس في التنفيذ ونتخاذل عن المشاركة في العمل ونجبن عند البذل والعطاء, عندما نكون على هكذا نمارس حياتنا فإننا بالتأكيد لا نشعر ولا نعطي تلك القيمة العالية لأنفسنا, وهذه الدونية تنعكس على الخارج فعند ذلك لا يجد المجتمع من القوة ما يمكنه للنهوض بنفسه ولا تتوافر العزيمة للارتقاء بواقعه.
في إطار هذه السمات التي قد يعيش بعضها أو كلها مجتمع ما نتيجة لما يشعر به الكثرة من أفراده بالدونية والحقارة واللا أهمية واللاشيئية في داخل أنفسهم نستطيع أن نتتبع بعض العوامل المشتركة التي تنزل بقيمة الإنسان لنفسه في نفسه, ومن هذه العوامل وباختصار ما يلي:
1 - عندما تكون الأوهام أكثر من الحقائق: الحقيقة هي الشيء وهي الوجود وهي الواقع, والوهم هو العدم وهو الفراغ وهو الخيال الشارد, ولكن المشكلة أن للوهم قوة وفعلا وتأثيرا كما هو للحقائق وربما أكثر منها عند الشخصية التي تعيش تلك الأوهام. وإذا كانت القيمة للحقائق فبالتأكيد لا قيمة لمن يعيش الأوهام أو أن قيمة ذلك الإنسان تنحدر بمقدار ما يعيشه من أوهام. فمن أين للإنسان الثقة بنفسه وهو يعيش وهم أن الماضي خير من الحاضر, وأن المستقبل سيكون أسوأ من الحاضر, وكيف له أن يستحضر وجوده وفاعليته وهو يرى نفسه أضعف وأبعد عن الصواب في مقابل من سبقوه. وكيف للإنسان أن يستنهض قواه للتخطيط والإعداد للمستقبل وهو يعيش وهم أن التعرف على المستقبل هو من أبواب الغيب وليس من ميادين المعرفة؟ وكيف للمجتمع ألا ينقسم وألا يستثمر مشتركاته وهو يعيش وهم أن الوحدة لا تتم إلا بوحدة الرأي ووحدة الاجتهاد ووحدة الرؤى وتحريم الاختلاف ورفض تنوع الآراء و الإصرار على مصادرة حق الناس في الاجتهاد في إطار المشتركات والثوابت التي لا غبار عليها. ومن أين لنا تلك القوة التي تدفعنا لنجتهد وننتج ونعيش التحدي مع أزماتنا ومشكلاتنا ونحن نعيش وهم أن قدرنا هو أن نكون ضحايا لمن هم أقوى منا, يتآمرون علينا ويفسدون علينا خططنا وينهبون ما عندنا من نعم وثروات. وكيف لا تنحط أخلاق المجتمع عندما يعيش ذلك المجتمع وهم أن بالإمكان المحافظة على الأخلاق وهو لا يكترث بالحقوق الغائبة ولا بالمسؤوليات الضائعة ولا بالواجبات المعطلة. إن الأوهام الاجتماعية التي تنتجها ثقافة ذلك المجتمع معاول تطيح بثقة الإنسان بنفسه وتعطل قدراته, فتتبع الأوهام الاجتماعية وانتزاعها من ثقافة المجتمع كفيلة بأن تخلص الإنسان من حمل نفسي كبير, وهو الشعور بالدونية والضعف.
2 - عندما تضيع الأولويات: من الطبيعي أن يشعر الإنسان بالإحباط النفسي عندما يفشل, ولكن تتسع دائرة هذا الإحباط بشكل كبير عندما يكتشف الإنسان أن ما نجح فيه هو عين الفشل لأنه انشغل بموضوع لا أولوية له ولا أهمية له في تحريك الواقع المراد تغيره إلى الأحسن. وكلما انشغلنا بموضوعات وإن كانت في حد ذاتها إيجابية ولكنها كانت على حساب موضوعات وقضايا كان من الضروري أن تتقدم عليها, فإننا سنواجه بالحقيقة وهي أن نجاحاتنا هذه والتي فرحنا بها واحتفينا بإنجازها لم ترتق بالواقع الذي نعيشه, بل هي في الحقيقة أشغلتنا عن قضايا, ومشكلات صارت اليوم أصعب في التعامل معها, أو فوتت علينا فرصا كنا سنجني منها كثيرا لتطوير أنفسنا. وإذا كان الانشغال بالمهم على حساب الأهم فشلا مشكلة ونتيجته الشعور بالإحباط فإن الانشغال والاستغراق بتوافه الأمور وتقديمها على أنها القضايا المهمة والمصيرية فإنها بالتأكيد تغرق المجتمع بشعور ثقيل من الشعور بالمهانة وعدم التقدير للذات.
3 - اختزال المجتمع: لقد ابتليت الثقافة العربية العامة بأنها ثقافة تدفع إلى إلغاء الفرد تحت عنوانين كثيرة, وتهميش الإنسان الفرد المستقل والتقليل من قيمته ووجوده ودوره وتأثيره سينعكس بالتأكيد على تقدير ذلك الإنسان لذاته. فالإنسان العربي مهمش, والمجتمعات العربية مختزلة في جميع الميادين الاجتماعية والدينية وحتى الاقتصادية, وهذا يفسر كل هذه السلبية التي نراها في التفاعل مع القضايا التي تواجهها مجتمعاتنا, بل إننا نجدها غير فاعلة وغير متجاوبة حتى مع الفرص القليلة التي تمر بها في ظروف متباعدة للنهوض بنفسها. الاختزال يسلب من الإنسان إرادته ويجعله يشعر بأنه في حاجة إلى مباركة من يرجع إليه في كل تفاصيل حياته, ومثل هذا النوع من الرجوع هو تكريس لمفهوم العجز والسلبية والتي لا تنتج للنفس إلا مزيدا من الشعور بالمهانة والدونية.
إن الدعوة إلى الإصلاح الثقافي تتأكد أهميتها عندما نجد أن الثقافة قد تبدل دورها وانحرفت مسيرتها, فبدل من أن تعزز شخصية الإنسان وتقوي ثقته بنفسه وتقديره لذاته فإنها تتحول بقيمها وقناعاتها ورغباتها إلى أدوات لتحطيم الإنسان في ذاته والنيل من ثقته بنفسه. إن الإصلاح الثقافي هو في وجه من أوجهه إصلاح نفسي لذواتنا وشخصياتنا ومن غير هذا الإصلاح النفسي فإن المجتمع ربما لا يجد في نفسه من قوة الإرادة ما يكفي للنهوض بنفسه وتحقيق طموحاته.