إلى متى الولاء للاقتصاد الأمريكي؟
في ظل التغيرات المتلاحقة في السياسة الدولية وبروز أوروبا كقوة سياسية واقتصادية ذات عملة قوية وصعود نجم فرنسا - ساركوزي على أنغام موجة تنامي القوة والتقنية الاقتصادية إلى جانب النفوذ الذي تفرضاه الصين والهند, وفي وقت أخذت فيه عديد من دول العالم الثالث تبرز كقوى جديدة تنافس الدول الغربية في الكثير من المجالات فإن المنطق يقول إن الاقتصاد الأمريكي آخذ في الأفول والتراجع، لقد هبطت قيمة العملة الأمريكية وهي رمز قوة اقتصاد البلد وبسبب المخاوف من اتساع العجز في الميزان التجاري الأمريكي اتجهت الإدارة الأمريكية لانتهاج سياسة الدولار الضعيف بشكل تخطيطي ومدروس لتخفيض أسعار صادراتها ومن ثم زيادة تنامي فرصها في الأسواق الدولية وتحقيق الانتعاش الاقتصادي ولدفع المستثمرين إلى الاستثمار بالدولار الأمريكي، إلا أن هذه السياسة في تخفيض العملة بسبق الإصرار تعد خطرة وحساسة ولا تنفع إلا في فترات قصيرة، وقد تؤدي إلى انفلات زمام التحكّم في الاقتصاد أو تؤدي إلى انهيار قيمة هذه العملة في أسوأ الأحوال خاصّة في ظل وجود عملة بديلة وهي اليورو، الأمر الذي لم يكن موجودا إثر الأزمة الاقتصادية العالمية في الستينيات وأوائل السبعينيات, عندما هرع الجميع بمن فيهم الأوروبيون إلى دعم الدولار الأمريكي خوفا من انهياره وذلك لارتباط عملاتهم واحتياطيّاتهم به، ولكن في هذه المرّة وفي ظل الأزمة الحالية فلا أعتقد أن تساعد الظروف الولايات المتحدة كما فعلت من قبل خاصّة في ظل التقارير الدوليّة التي تفيد بأن أكثر من نصف البنوك المركزيّة العالميّة قد حوّلت بالفعل احتياطيّاتها من الدولار إلى اليورو، لذلك فإن العيش في سراب الماضي قد يؤدي إلى انتكاسة في ظل تغير المعطيات الاقتصادية الدولية, وإلى متى تتمسك الدول الخليجية بالدولار الأمريكي؟
إقليميا, فإن اقتصادات دول مجلس التعاون ما زالت تخسر بعض الشيء عند حدوث ارتفاع في قيم العملات الأخرى التي تستورد منها, وخصوصا الواردات من اليورو والين الياباني، وربما هذا يفسر ارتفاع قيم بعض السلع المستوردة مثل السيارات والآلات والأجهزة من أوروبا واليابان ودول أخرى حققت عملاتها الوطنية ارتفاعا مقابل الدولار, وتتسبب هذه الظاهرة في استيراد التضخم، حيث تعاني اقتصادات دول المجلس في الوقت الحاضر من ظاهرة استيراد التضخم, الأمر الذي ينال من القدرة الشرائية للمواطنين والمقيمين، إضافة إلى ذلك تؤدي عملية ربط العملات بالدولار حرمان البنوك المركزية في دول المجلس من التأثير في معدلات الفائدة في الأسواق المحلية وعليه تستورد دول المجلس معدلات الفائدة السائدة في الأسواق الأمريكية، لذلك, فإن معدلات الفائدة الخليجية ترتفع وتهبط استنادا للأوضاع الاقتصادية في الولايات المتحدة وينطبق على ذلك مثال محاربة التضخم أو ارتفاع العجز المالي للحكومة الفيدرالية, هل كانت الخطوة التي اتخذتها الكويت برفع قيمة عملتها مقابل الدولار وفك الارتباط به إلى الارتباط بسلة عملات هي خطوة متقدمة وجريئة؟ هل كانت هذه الخطوة تصب في مصلحة المواطن بالدرجة الأولى؟ لأنه سيتمكن من شراء السلع والمستلزمات بشكل مناسب بدل أن يواصل معاناته على أمل صدور العملة الخليجية في 2010؟ وفي ظل احتمالية تأخر العملة عن الصدور في موعدها لما يتطلب ذلك من جهود كبيرة, نظرا إلى حداثة التجربة وإلى الوقت الطويل الذي تتطلبه طباعة العملة الموحدة فضلا عن ضرورة تهيئة الجمهور للتعامل بالعملة الموحدة, هل أن الموقف المتخذ مسبقا من جانب قادة دول الخليج العربي بالإبقاء على سياسة ربط سعر الصرف بالدولار الأمريكي بالإمكان مراجعته؟ في ظل التأزم السياسي والاقتصادي العالمي والطوق الذي يدور حول رقبة الولايات المتحدة مدفوعا بدول كبرى ذات نفوذ تراهن على أن السقوط الأمريكي قد طال انتظاره, وتعد الإصلاحات الاقتصادية في ظل الإدارة الجديدة لأوباما لا تزيد على محاولة اليائس, وبذلك فإن دول الخليج وهي تبحث عن عملة أقوى ونظاما أكثر مرونة هل ستكون قادرة أن تعيد النظر من أجل أن يكون الموقف موحدا ويسهل إصدار العملة الموحدة بدل أن يعرقله الاختلاف، كما هو حاصل حاليا حتى لو كلفها ذلك اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة, فيما يتعلق بوارداتها المسعرة بالدولار والتي تقف حجر عثرة أمام التقدم النقدي والسيطرة على الوضع الاقتصادي وكبح غلو الأسعار.
من المعلوم أن الدولار الأمريكي لا دعم حقيقي له يوازي قيمته فهو يستمدّ قيمته من مستوى حجم الطلب عليه، وبما أنّ العمليات العسكريّة الأمريكيّة في جميع أنحاء العالم يتم تمويلها عبر الدولار, فإنّ الفشل الأمريكي المتزايد في أنحاء العالم قد أثر بشكل سلبي في سمعة الدولار وقيمته, فالعجز التجاري الأمريكي تجاه معظم الدول الصناعيّة المتطوّرة والذي أصبح يتزايد ويشكّل عبئا على الوضع الاقتصادي الأمريكي وبالتالي على الديون الأمريكية، لقد تحوّل الاقتصاد الأمريكي من أكبر منتج في العالم منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى (44.5 في المائة من الإنتاج العالمي) إلى أكبر مستهلك حاليا مع انخفاض إنتاجه ليساوي تقريبا إنتاج اليابان التي تفوقها الولايات المتّحدة بأشواط في الموارد والقدرات ولذلك أصبحت أمريكا في حاجة إلى أموال نقدية مباشرة لتمويل مستورداتها ومشترياتها الاستهلاكيّة، وهو الأمر الذي ضغط على الاقتصاد وزاد من المديونيّة وأدى إلى ارتفاع في تكلفة الإنتاج في أمريكا وبالتالي إلى ركود اقتصادي نتيجة عدم التمكن من تصدير الإنتاج بأسعار منافسة في ظل وجود منتج كبير ورخيص يجتاح العالم وهو المنتج الصيني، لا شك إذن أن دول العالم الثالث التي اعتمدت كثيرا على الاقتصاد الأمريكي وارتبطت به لقوته على الرغم من أنه صدر إليها آفات عديدة في مقدمتها الحروب والتضخم، فلم يعد الحديث عن تباطؤ الاقتصاد الأمريكي واتجاهه نحو الركود مجرد مخاوف وهواجس يعبر عنها بعض الاقتصاديين المتشائمين بل أصبح حقيقة واقعة مقترنة باتخاذ إجراءات اقتصادية احترازية سارع المسؤولون في بنك الاحتياط الفيدرالي إلى اتخاذها للحد من هذا التدهور في محاولاتهم لإعادة إنعاش الاقتصاد، فخطورة هذا الركود في اقتصاد دولة ما زالت تعد زعيمة العالم أنه لن يقف عند حدود الولايات المتحدة فقط بل انعكس سلبا على اقتصاد العديد من الدول المرتبطة بها أو بعملتها - الدولار، ويدعم ذلك التشابك الاقتصادي العالمي الراهن في ظل حرية التجارة التي توفر وسائل متعددة لنقل الأزمات الاقتصادية من خلال عدة قنوات أهمها أسواق رأس المال، حيث إن هذه الأسواق تعد الأسرع نقلاً للأزمات.
وكانت الصين وهي صاحبة أكبر احتياطي نقدي في العالم قد جددت الدعوة أخيرا إلى إيجاد عملة احتياط دولية للحد من هيمنة الدولار على أسواق المال في العالم وهو الأمر الذي تقول إنه تسبب في تفاقم الأزمة العالمية, كما دعت روسيا صاحبة ثالث أكبر احتياطي أجنبي إلى أن يقلل العالم من اعتماده على الدولار، لذلك يجب علينا أن نفكر جديا في عملة احتياط دولية غير الدولار, ومعروف أن الاقتصاد الأمريكي يعتمد في نموه المستمر وزيادة قدراته الإنتاجية على المدخرات الأجنبية التي ترد إليه من مختلف دول العالم وهو ما يعني أن خفض أسعار الفائدة على الدولار سيؤثر في تدفق رؤوس الأموال من وإلى الولايات المتحدة وخاصة إلى الدول النامية ومن ضمنها الدول العربية والخليجية من حيث سرعة نقل الأزمات الاقتصادية لأسواق السلع، حيث يقلل تراجع النشاط الاقتصادي الأمريكي من واردات مستلزمات الإنتاج التي هي مثل: النفط الذي تستورد منه أمريكا نحو 50 في المائة من احتياجاتها الكلية وهو ما يعني نقل آثار الركود الأمريكي إلى مصدري النفط في العالم بما فيها الدول العربية والخليجية, وهكذا بالنسبة لبقية السلع، فالاقتصاد الأمريكي هو اقتصاد خدمي قائم على الصفقات والأوراق الماليّة والاستثمارات ولا يعتمد على قدرة البلاد الإنتاجية بقدر ما يعتمد على سمعتها وأدائها على الصعيد الاقتصادي، لذلك فإن ضعف أداء الاقتصاد الأمريكي هذا سيؤدي إلى زيادة المطالبة بتشديد الحماية على المنتجات الوطنية في الولايات المتحدة, الأمر الذي سيعرقل إطلاق أي جولة جديدة من المفاوضات حول تحرير التجارة العالمية, بل اللجوء إلى فرض قيود تجارية للحد من الأضرار التي تسببها منافسة المنتجات المستوردة بأسعار متدنية, وفي ظل هذه الأوضاع والظروف نرى أنه ليس من الحكمة الاعتماد على الاقتصاد الأمريكي ولا عملته بشكل كلي في السنوات والعقود المقبلة ويجب أن تتراجع درجة الولاء له خصوصا في ظل ظهور بدائل تنافسية أخرى.