لله ما أعطى ولله ما أخذ ويرحم الله أخي عبد الرحمن

لله ما أعطى ولله ما أخذ, وإنا لله وأنا إليه راجعون, هكذا كنا نردد ونحن نودع أخانا فقيدنا الغالي شقيقي المحامي عبد الرحمن خالد السعد ـ رحمه الله ـ والحديث عن هذا الفقد هو حديث النفس للنفس الذي لا تستطيع كتمانه فهو كالدخان الحار يجوب الحنايا يتغلغل فيها وتنبثق الدموع لتهدئ هذا الألم عل الذات المتألمة تستكين وترضى بقضاء الله، فجميعنا سنكون على هذا الطريق ونعلم ذلك جيدا ولكن في لحظات ضعفنا البشري يطغى ألم الفراق على استيعاب مسلماتها لثوان فقط، ليس اعتراضا على حكمه وقدره إطلاقا, فالله أرحم بالفقيد من حبنا وعطفنا وألمنا لفراقه الأبدي، نعرف هذا ونؤمن به إيماننا بوحدانيته وبإيماننا بالقضاء والقدر. لكن تلك هي اللحظات الأولى لأخبار الفقد والفراق الأبدي وعندها لابد أن يكون الصبر في هذه اللحظات هو الملجأ والاتكاءة، ولكن هذا الألم للفقد يظل يجوب الحنايا في رحلة شائكة تنقل الحزن من الضلوع إلى مسام الجسد فكأن كل خلية تبكي وليس العينان فقط.
أقلب صفحاتي التي تهربت منها كثيرا، فاليوم اكتمل الأسبوع الرابع لفقد شقيقي ـ يرحمه الله ـ الذي توفي فجر يوم الثلاثاء 17 جمادى الأولى الماضي، طوال تلك المدة كنت ابتعد عن الكتابة عن هذا الرحيل خشية المساس بلهب يخترق الضلوع فتمتد شحناته المؤلمة إلى مساحات لا أقوى على تحملها، كنت كطفلة فقدت والديها معا في زحام بشري وافتقدت بوصلة الاسترشاد إلى مكمن الهدوء والراحة، فألم فقد الأخوة يختلف عن مرارة فقد الوالدين، بل هناك مرارة مختلفة يمر بها الإنسان منا في كل لحظات فقد لأحد والديه أو أحد إخوته، ولكل حزن طعم أشد قسوة عن الآخر، وفي لحظات هذه الثورة من الأحزان تجوب الخلايا وتتسلل إلى الشرايين وتجد ملجأها أخيرا في دموع تسكبها العينان ودموع أخرى لا صوت لها تتمثل في حوارات داخلية نستعيدها في ذلك المخزون من الذكريات الذي نحمله كما هي بصمة الأصبع وفصيلة الدم.
قد يقول قائل هل لابد أن أكتب عن معاناتي وألمي لفقد هذا الغالي؟ الإجابة قد تكون بلا ونعم، لا إذا كنا نتوقع من أي كاتب أن يكون مثاليا لا يتحدث إلا عن قضايا ومعاناة وأفراح الآخرين، ونحرمه التواصل مع من يقيم معهم حواراته الدائمة، ويعرفهم ويعرفونه على صفحات الصحيفة، أو قد تكون الإجابة بنعم إذا التحمنا معا كتابا وقراء في ملحمة البشرية التي تجمعنا نفرح معا ونشارك بعضنا أحزان البعض الآخر, وقد تحمل هذا المعاناة نسخة من معاناة من فقد أخا أو والدا فيجد فيها شيئا من تلك الذات المتألمة كما نجدها في قراءة قصيدة شعر تناجي غائبا لم يعد بين الأحياء فنشعر أن هذه القصيدة تلتحم مع ألمنا وكأنها تصور عمق هذا الألم أو كأنها نظمت من أجلنا فقط.
لا تلوموني على مناقشة معاناتي مع فقدي لأخي الغالي عبد الرحمن ـ يرحمه الله ـ فقد كانت رحلته مع المرض القاتل خاطفة وسريعة لم تسمح لنا حتى بالتقاط أنفاسنا كي نستوعب أنه سيرحل كطائر أبيض النقاء إلى تلك السماوات البعيدة حيث لا لقاء مع البشر.
منذ ثلاثة أشهر فقط اكتشف الغالي أنه مصاب بورم سرطاني في البنكرياس وبصبر ويقين في قضاء الله، كما هو دائما ذا جلد وهدوء لمواجهة الملمات والمواقف الحاسمة، تقبل الخبر بإيمان بحكمة الخالق في ابتلاء عباده بالمصائب والأمراض، وقيل له سارع إلى إجراء عملية سريعة جدا علنا نستأصل ما نستطيع في محاولة لمحاصرة هذا المرض القاتل والعدو الصامت الذي لا تظهر علاماته إلا وقد تمكن من البنكرياس، وكعادته في إيفاء الآخرين حقوقهم قبل حقوقه وبصفته محاميا ولديه قضايا لأناس وثقوا بعمله ومصداقيته ونبله وسمو تعاملاته التي يشهد لها جميع من تعامل معه من زملاء ومعارف وعملاء للمجموعة القانونية للاستشارات والمحاماة الخاصة به وبعض من شركائه المخلصين من زملائه المحامين ومقرها جدة . بدأ في إنجاز ما يمكن منها أو إعادة المبالغ المالية التي تسلمها منهم رغم أن بعضا منها كان قد بدأ في إجراءاتها ولو كان أي شخص آخر لاقتطع جزءا منها نظير هذا العمل ولا خلاف حول ذلك، ولكن لأنه كان (عبد الرحمن) المتميز برقي تعاملاته وإخلاصه، ومبادئه، وحفاظه على شرف هذه المهنة كما هو معروف عنه أعادها لهم!! ونحن أهله لم نعرف هذا إلا من الذين قدموا العزاء لنا وأخبارنا بهذه المواقف. أما هو فكعادته لا يتحدث عن هذه القضايا إطلاقا.
أمانته ومصداقيته ووقوفه مع الحق والدفاع عنه سمات متأصلة فيه ويشهد عليها ليس نحن وأقرباؤه ولكن جميع من يعرفه من أصدقائه وزملائه وجيراننا، حتى خصوم موكليه في ساحة القضاء كما ذكر لي زميله وصديقه الوفي المحامي سامي خجا أنهم بكوه عند علمهم بمرضه ثم وفاته ـ يرحمه الله ـ. لن أقول إن تأخر العلاج كان سببه إرجاؤه ـ يرحمه الله ـ إجراء العملية إلا بعد إنجاز قضايا الآخرين المسؤول عنها ولكن هو القدر والقضاء فبعد الانتهاء من هذه المهمات التي استغرقت أياما كان المرض خلالها قد انتشر إلى الكبد والرئتين! فتوقف الطب عاجزا أمام هذا الانتشار.
ما أشد فراق الأحبة وما أصعب موت الأشقاء، خصوصا أن هذا المرض كان يطفئ شمعته يوما بعد يوم. ويوهن قواه تدريجيا، وإذا بأخي الذي نعرفه ضاحكا مازحا نشيطا أو حازما في بعض المواقف هذا الشقيق الذي عوضنا عن فقد والدنا طوال 36 عاما فأصبح أبا وأخا للجميع: لنا نحن إخوته ولأسرته ولأقربائنا ولأصدقائه وأبنائهم ومعارفه وجميع من تعرف أو التقى به، يتحول إلى شخص آخر، تبكيني حتى اللحظة تلك السمات التي ارتسمت على ملامحه والمرض يقتات من البنكرياس ويمتد إلى الكبد والرئتين وكأنه عدو لا يتوقف جموحه ويستمر بالانتشار في مساحات ذلك الجسد الذي لم يحمل للآخرين سوى المحبة والكرم والتعاطف مع قضاياهم ومشكلاتهم . وكان مؤمنا بقضاء الله صابرا ومحتسبا لما أصابه. تقريبا ثلاثة أشهر فقط مرت بحياته اكتشف المرض وأخبر بانتشاره واقترح عليه السفر إلى ألمانيا للعلاج, ورغم رفضه فكرة السفر، ولكن لأن مدينة هايدلبرج في ألمانيا هي مدينة الرحيل لذلك الغالي فقد سافر إليها وودعناه على أمل اللقاء به عائدا من رحلة العلاج، ولكن ما بين الوصول إليها والعودة منها تسعة أيام فقط!! وكأنه ذهب للقاء الموت هناك. ليعود جثمانه محمولا على شغاف قلوبنا. ثم نودعه محمولا على أعناق محبيه وعارفي فضله ووفائه لهم، ونودعه بحب تمثل في أعداد كبيرة جدا من محبيه رجالا وشبابا وأطفالا وقد ـ حباه الله ـ بأصدقاء وأقرباء هم الإخلاص نفسه.
لله ما أعطى ولله ما أخذ, فكم هي رحلته جميلة مليئة بالعطاء والتفاني والإخلاص في هذه الحياة التي مر بها في السنوات التي امتدت من يوم ميلاده في الطائف وساعة رحيله في المدينة الألمانية هايدلبرج. في تلك المدينة غابت أنفاس من نحب، ومن غيب بموته الضوء من الحنايا لكل من أحبه وعاش معه أو تعامل معه. وعزاؤنا ما لمسناه من محبة ودعاء لجميع من جاؤوا لنعزيهم نحن في الغالي، صمت ودعاء كان يخيم علي جدران المنزل طوال أيام العزاء، ويغادرون لنبقى نحن ننتظر عودته وكأنه لم يغب، صوت مفاتيحه وخطواته، وصفحات الجرائد يقلبها بعد عودته مساء وهو يشاهد بعض القنوات، وأقرأ نعيه في الصحف وأقرأ اسمه في برقيات التعازي وكأني وأخواتي وإخواني يوميا نود أن نستوعب حقيقة أنه غاب ولن يعود.
كم هو الفراق صعب ومرارته قاسية, ولكن ما نقول إلا ما يرضي الرب ونحمده على قضائه.. إنا لله وإنا إليه راجعون، إن لله ما أخذ وله ما أعطى, ونسأل الله له ولأموات المسلمين أن يغفر لهم ويرحمهم ويغسلهم بالثلج والماء والبرد.

** اللهم يا كريم الكرماء أكرم وفادة أخي عبد الرحمن وألبسه لباس السعداء واحشره في زمرة الأنبياء والشهداء والصالحين واربط على قلوبنا وقلوب محبيه, إنك سميع مجيب الدعاء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي