المحروقات مرة أخرى: حتى لا تأخذنا المكابرة عن مواجهة المشكلة؟!

كتبت الأسبوع الماضي مقالا حول زيادة الاستهلاك الداخلي للمشتقات البترولية، ولا سيما البنزين والديزل، وأشرت إلى أن ذلك يؤدي إلى تآكل الحصة المقررة للتصدير تدريجيا، كما أشرت إلى أنه في الوقت الذي كان المقصود بالإعانة، وخفض السعر هو المواطن العادي (أي الفقير) نجد أن هذا المواطن هو أقل الأطراف استفادة من هذا التخفيض، حيث فاز بالحصة الكبرى منه الشركات والتجار والأغنياء، وأنه في الوقت الذي كان يفترض فيه أن ينعكس الدعم الموجه لهذه المواد على تكلفة معيشة المواطن، باعتبار المحروقات عنصرا مؤثرا في الأسعار، ولا سيما أسعار المواد الغذائية، نجد أن هذا التأثير كان معدوما!...
وقد لمست من بعض التعقيبات على المقال، عدم تفهم بعض من قرأه للمغزى من إثارة الموضوع، وربما يكون ذلك بسبب حيز المقال الضيق، الذي لم يتح فرصة للحديث بإسهاب، وهو ما دعاني إلى إعادة طرح الموضوع في شكل نقاط آمل أن تكون واضحة:

المواطن لم يستفد من الدعم
لم يكن المقصود بالدعم أن يوفر المواطن فرق البنزين في استهلاك سيارته فقط، فمثل هذا الفرق لا يكاد يذكر بالنسبة لسيارة صغيرة (بيك آب أو مثلها)، فضلا عن أن هناك نسبة من المواطنين لا يملكون سيارات، فكيف يستفيدون من انخفاض السعر؟!...، إن الهدف هو أن ينعكس انخفاض السعر على تكلفة معيشة المواطن، عن طريق الانخفاض في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية، لأن هناك علاقة مباشرة بين أجور الشحن وتكلفة المواد المنقولة، بيد أن هذا الدعم قوبل بزيادة في الأسعار لم تكن تتناسب أبدا مع الزيادة التي حدثت على أسعار بعض المواد في مصادرها، كما أن التجار لم يتجاوبوا مع نداءات الدولة، وكانوا أكبر المستفيدين من دعم المحروقات، هم والشركات والأغنياء، وأصحاب السيارات الكثيرة الفارهة! أرجو أن تكون هذه النقطة واضحة!..

أسباب زيادة الاستهلاك
السبب الرئيس لذلك هو انخفاض السعر، فما من مادة ينخفض سعرها عن المألوف مقارنة بمثيلها في الدول المجاورة، على سبيل المثال، إلا ويظهر الإسراف والتبذير في استهلاكها، فضلا عن تعرضها للأزمات من احتمالات حدوث النقص بسبب زيادة الضغط عليها، وهناك شواهد حدثت لدينا، مثل أزمة الدقيق، وفي حالة البنزين، ليس غائبا أن سعره أرخص من سعر الماء المعبأ، رغم رخص سعر الأخير لدينا، عما هو عليه في الدول المجاورة، فقارورة الماء سعة 1.5 لتر نشتريها من البقالة بريالين، والكمية المماثلة لها من البنزين نشتريها من المحطة بسعر 67 هللة فقط، فهل هذا معقول؟!.. البنزين الذي يمر بعدة عمليات من التكرير والنقل والتوزيع نحصل عليه بما يقرب من ربع قيمة الماء؟!.. صحيح أننا نستخرج البترول بتكلفة الإنتاج، لكن هناك تكاليف التكرير وما يليها كما ذكرنا!..، أما إذا كان مستوردا بالسعر العالمي، كما هو الحال الآن لسد النقص، فالخسارة على الخزانة مضاعفة!...
وهناك أسباب جانبية أخرى لكنها مهمة، لزيادة الاستهلاك، مثل ما تعرضت له بالذكر سابقا، مثل عدم وجود شبكة نقل عام منظم، وهو ما يجبر الناس مواطنين ومقيمين على تملك السيارات، ومنها نظرة الناس إلى أن الدوران في الشوارع، أو ما يسمونه "التمشية" هو نوع من أنواع الترفيه والتسلية بالمطاردة، كانعكاس لقلة وسال الترفيه أو انعدامها، كدور السينما والعروض المسرحية، والنوادي الاجتماعية!..
وهناك سبب آخر مهم وهو التهريب، فإذا كان سعر البنزين مثلا في بعض الدول المجاورة يبلغ أضعاف سعره لدينا, فإن هذا السبب يكفي لتهريبه بشتى الوسائل, ومنها ما لا يمكن ضبطه ومنعه, مهما حاولنا!...

المشكلات الناجمة عن الاستهلاك
أولى هذه المشكلات هو التلوث البيئي لأجواء المدن من السموم التي تنفثها عوادم السيارات, وإذا اجتمع هو والغبار الملازم لأجوائنا, أمكننا القول إن جزءا كبيرا مما ينفق على الصحة يذهب لمعالجة الأمراض الناشئة عن التلوث, وثانية المشكلات أن رخص سعر المحروقات أغرى باقتناء السيارات بخاصة ذوات المحركات الضخمة, ويمكن أن نتذكر أنه عندما تم رفع سعر البنزين في وقت مضى, وهو نوع واحد, إلى 90 هللة, قل استيراد السيارات ذوات المحركات الكبيرة, لكنها عادت تغزو الشوارع مع الانخفاض الأخير في السعر, أما الخسارة الكبرى فهي البشرية والاقتصادية, الناجمة عن كثرة حوادث السيارات, والتي تمتلئ المقابر والمستشفيات بشواهدها, وهي حوادث تذهب بسببها عائلات بكاملها!..

ما الحل؟
إذا ترك الأمر على ما هو عليه فإن الاستهلاك سيتضاعف سنويا, وسنصل بعد عشر سنوات, أو قريبا منها, إلى أن ما يستهلك داخليا يزيد عما يصدر, وهو أمر إذا حصل فسوف يشل قدرة الدولة على الإنفاق على التنمية, وسيصبح ما يرد من دخل البترول لا يكاد يكفي لتسديد رواتب موظفي الدولة فقط!.. تصوروا هذا, وهو تصور سيحصل إذا لم يتم تدارك الأمر بحلول تعيد التوازن, وتوجه الإعانة إلى المحتاجين, وهم المستهدفون منها, ومن ذلك أن يعاد السعر إلى ما كان مقررا قبل التخفيض الأخير, على أن توزع الزيادة على ثلاث سنوات بمعدل خمس هللات للتر, وتصاحب ذلك وتتزامن معه زيادة في مخصصات الضمان الاجتماعي بمعدل 10 في المائة سنويا لمدة ثلاث سنوات, أي زيادة خمس هللات للتر تقابلها زيادة 10 في المائة في مخصصات الضمان الاجتماعي, وهذه الزيادة في المخصصات ستكون أقل بكثير من الفرق الذي يتوافر نتيجة التعديل, ونكون بهذا قد وجهنا الإعانة توجيها سليما لمستحقيها, ومع ذلك أبقينا على أسعار المحروقات ضمن النطاق المعقول, ودون مستوياتها في الدول المجاورة, الأمر الذي سيحد من تهريبها, وفوق ذلك حافظنا على الكميات المخصصة للتصدير, ودعمنا الخزانة, كضمان لاستمرار التنمية والازدهار الاقتصادي.
والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي