تركي الثنيان يطالب برفع الإعانات الحكومية عن الأثرياء

موضوع الإعانات غارق في خلط مواضيع عدة مع بعضها بعضا بشكل غير منهجي تحكمه الانطباعات الشخصية والمزايدات اللذيذة التي يطرب لها الناس، وهي الأسهل، فمن يريد جماهيرية جارفة في موضوع الإعانات فالطريق سهل جدا عبر العزف بما يستهوي الأفئدة ويطرب الآذان، مع أن موضوع الإعانات موضوع حساس جدا يهمنا اليوم ويهم أحفادنا في الغد، فالقضية ليست وقتية، احتراف لاعب كرة، تنتهي بزوال صرعتها بل هي قضية أجيال. لهذا أعتقده منطقيا أن نعود إلى الخلف قليلا ونتبصر في موضوع الإعانات، من تعريفها حتى تطبيقها، لنتمكن من اتخاذ قرار مسدد في هذا الموضوع المتكهرب، وهو قرار أعتقد أنه يحتاج إلى جهة مختصة ترتبط بقمة الهرم.
معلوم أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فلا يمكن لأي شخص أن يسدد رماحه تجاه هدف مجهول الهوية أو ضبابي الصورة. ولهذا، اسمحوا لي أن أستطرد بكم قليلا لمحاولة تشكيل تصور أوضح قليلا لمعنى الإعانة، فمن اللازم لمن يريد تحليل موضوع الإعانات معرفة ماهيتها لمعرفة حقيقة وجود مشكلة من عدمها؟ وإن وجدت فلماذا؟ وكيف نعالجها؟ ولننطلق من المعنى التجريدي للإعانة الذي يعني أن هناك تدخلا حكوميا في معادلة السوق بشكل مباشر أو غير مباشر يتم اقتطاعه من خزانة الدولة – أو من جيوب المواطنين - وتحويلها لجهة ما لغرض تحقيق هدف وطني. أو هي تدخل من الدولة لأجل توفير سلعة أو خدمة بسعر أقل من سعر السوق بتكلفة يتم استقطاعها من الدخل العام لمسبب وجيه يفوق التكاليف المصاحبة له – في وجهة نظر صانع القرار وإلا أصبح دفعها عبثا. وتقدم الإعانة الحكومية عبر عدة طرق أهمها طريقان، إما وضع التعرفة الجمركية على المنافس حتى لا يستطيع البيع إلا بسعر محدد، كأن تفرض المملكة تعرفة جمركية على الحليب المجفف قدرها 110 في المائة من سعره حتى لا يمكنه الدخول إلى السوق السعودي إلا بتكلفة عالية لا تمكنه من بيع منتجه داخليا – كما حدث فعليا (وهذا يعني أن المواطنين يتحملون بشكل أو بآخر بعض أو كل التكلفة). وإما عبر تقديم دعم حكومي مباشر كمبالغ نقدية، أو أسعار مخفضة للطاقة أو غيرها من التكاليف التي تتكبدها المنشآت التجارية أو منحها أفضلية في الشراء الحكومي، كما يحدث في المناقصات الحكومية (وهو يعني أيضا أن المواطنين يشاركون في تحمل التكلفة, فهذه المبالغ المقتطعة من الخزانة العامة كان من الممكن صرفها فيما ينفعهم).

الإعانة والنفع الوطني

إذا اتفقنا أن الإعانة وضعت لأجل تحقيق نفع وطني يجب أن يفوق التكاليف المصاحبة لها، جاز لنا أن ننطلق إلى النقطة المحورية التالية وهي آلية تحديد الطريق الأمثل لتوجيه تلك الإعانة؟ في إعانة الزراعة، مثلا، الهدف الوطني كان -في تصوري - يتمحور حول تأهيل وتوطين البوادي وأهلها، وإعادة توزيع الدخل على المحتاجين، وتحقيق شيء من الاكتفاء الذاتي في بعض المحاصيل. الهدف سام وإن نتج عنه انحراف غير مقصود تمثل في استفادة الكبار من الإعانة، واستنزاف المياه، وهدر الموارد البشرية، والسبب ليس الإعانة بحد ذاتها بل السبب أننا لم نستطع حصر الإعانة في الفئة المستهدفة، ولم نستطع توجيه الإعانة إلى الشريحة المستهدفة، وبالتالي حدث أن انضم إلى الفئة المستهدفة فئات أخرى، كالتجار والكفاءات البشرية الأخرى (قضاة ومهندسون ومحامون) وبالتالي حدث عندنا عدة انحرافات غير مقصودة منها تعطيل الكفاءات البشرية وحرفها عن أماكنها الأكثر مناسبة لمهاراتها، فبدلا من أن يتوجه القاضي المتقاعد إلى الكتابة أو ممارسة عمل يتعلق بالبيئة العدلية انحرفت اهتماماته إلى الزراعة، وبدلا من أن تكون الإعانة الزراعية مصدر رزق لصغار المزارعين وسكان القرى والبوادي، زاحمتهم الشركات العملاقة، وكبار رجال الأعمال مما أبطل أو قلل من الفوائد المرتقبة التي تستهدف الصغار فأصبحت الإعانة مخترقة من جميع الجهات، مما أدى للأسف الشديد إلى سد تلك النافذة الوطنية بالكامل – أو شبه الكامل - وتجفيفها حتى لا يستمر الهدر.
والسبب المنطقي بكل بداهة هو أن الإعانة انحرفت عما كان مستهدفا فأصبحت لغوا لا طائل من ورائه. شخصيا اختلف مع هذه الآلية ففي رأيي أن الانحرافات يمكن التصدي لها دون معاقبة الصغار، عبر تعديل للإعانة بشكل يحصرها في الفئة المستهدفة، ولكن للأسف أن بعض السياسات لدينا لا تعرف الحلول الوسطى، فإما إعانة مخترقة وإما لا إعانة. عموما، حتى لا يتشتت الحديث، النقطة الرئيسية هنا هي أن الإعانة يجب أن يتم تقديمها للشريحة المستهدفة حتى يتم تبرير التكلفة العامة، وأن يتم تقديمها بالوسيلة الأكثر دقة لنفع المستهدفين منها حتى لا يبطل الهدف الرئيسي من تقديمها، وهو قرار اقتصادي سياسي يجب مناقشة تحت مظلة الجهات المختصة، ولا أستغرب من صمت مجلس الشورى إلى اليوم وهو يرى ما يحدث وتأتيه التقارير تباعا ولا يحرك ساكنا. إن لم يتحرك ويقطع الشك باليقين في مثل هذه المسائل المصيرية، فمتى يتحرك ومتى سيسجل حضورا؟

حتى لا تكون عرضة للانتهاك

بالطبع هناك قيود على تقديم الإعانات حتى لا تكون عرضة للانتهاك. الأول، أن يكون هناك ترتيب للأولويات في توجيه الإعانات. فمثلا، لو افترضنا أن ميزانية الدولة يوجد فيها مبلغ قدره مليون ريال فقط لا غير وتريد الدولة تقديم هذا المليون كإعانة. فمن المفترض أن تقديم هذا المليون يجب أن يحقق أكبر عائد ممكن، أيا كان – اجتماعيا أو اقتصاديا - بالمنظور الحكومي، ولاحظ هنا أنني استخدمت عبارة "أكبر عائد ممكن" ولم اكتف فقط بكلمة عائد فقط. لأنه بالإمكان تقديم المليون ريال لأكثر من جهة ولكن العائد يختلف باختلاف تلك الجهات. فمثلا، لو تم تحديد المزارعين والمهندسين والأطباء كشرائح مستحقة للإعانة بالتساوي وفقا لمعايير المطبخ الحكومي. ولكن العائد المتوقع من تقديم المليون للمزارعين"رقميا"- حتى يسهل تصور المعادلة - هو مليون ريال، وللأطباء هو مليون و100 ألف ريال، والمهندسين 800 ألف ريال، فهنا أمامنا جهتان تحققان "عائدا" ولكن العائد الأكبر والاستغلال الأمثل للمليون يتم عبر تمرير الإعانة كاملة للأطباء. هنا العائد الأكبر يتحقق في شريحة الأطباء ومن ثم فالقرار الأكثر صحة (وليس الصحيح فقط) هو تقديم الإعانة للأطباء فقط. طبعا المليون و100 ألف ريال قد يمكن ترجمتها إلى معان كثيرة، كتوفير خدمة استراتيجية للمواطنين، دعم قطاع ناشئ، توجيه سوق العمل والتعليم لهذا القطاع... إلخ. الخلاصة من هذا القيد هو أن يتم تحليل كل الشرائح المستفيدة وتقديم الأولى فالأولى، لا أن يتم تحليل المستحقين فقط وتقسيم الإعانة بالتساوي. المعالجة الموضوعية لمثل هذه الجزئية تكمن في المعايير التي بموجبها يتم تقييم الشريحة المستهدفة عبر الشفافية في تحديدها وعبر مناقشتها باستفاضة.
يتبع من ترتيب الأولويات قيد متفرع وهو ضرورة استمرار فحص الأولويات بدلا من وضعها كقران لا يتعدل ولا يقبل التغيير. فمثلا، قد تمر البلد بأزمة سكانية تستوجب أن يتم توجيه الإعانات كلها ولو مؤقتا لمعالجة هذا الإشكال. ولكن بعد فترة زمنية، قد تنخفض تلك المشكلة إلى درجة معقولة يمكن السيطرة عليها بأدوات مختلفة، فالواجب ألا تستمر الإعانات موجهة التوجيه ذاته. هذا من أصعب القرارات التي تواجه صانع القرار نظرا لحجم الضغط الهائل الذي سيواجهه عند مراجعة الإعانات. فمعروف أن الإعانات ينتج عنها مستفيدون، هؤلاء يشكلون لوبي ضغط مستمر لضمان تلك الإعانات، فتلك الإعانات تتدخل في قوى السوق لزيادة منافعهم، وبالتالي فهم وبشراسة سيقاتلون إبقاء تلك الإعانات حتى لا يفقدون مكاسبهم.
ولنأخذ مصنعي الحليب المجفف كمثال، بعد فترة محددة من تقديم الإعانات المتمثلة في فرض تعرفة جمركية عالية على المنتج المنافس، وليكن 50 ريالا للكيلو الواحد، قاموا بضخ استثمارات في تلك الصناعة. الدولة كان في تصورها أن تلك الإعانات ستقوم بخلق صناعة حيوية، وهو قرار ربما كان مبررا في وقت ما. الإشكال ينشأ بعد أن يتم إقرار الإعانات، فبالنسبة لعموم المواطنين ربما لا تعنيهم هذه الريالات شيئا حتى يتشكل لوبي يدافع عنهم لإزالتها أو ربما – والأقرب - أنهم لا يعرفون عنها شيئا؛ ولكن في المقابل، بالنسبة إلى مصنعي الحليب المجفف فهذه الـ 50 ريالا تعني ربما ملايين الريالات التي تستحق المقاتلة منهم بأية وسيلة لإبقائها، وضمان تدفق عائد مالي جيد في حساباتهم. صانع القرار سيكون في موقف حرج؛ بين مقاتلة شرسة من اللوبي المركز الذي حتما لا يمكن أن يقوم بالمدافعة الصريحة بل سيسوق المبررات الوهمية ويخلط بين الأمور حلوها ومرها ويرمي بالنظريات المشوهة وسيتعلق بأي قميص يعتقد تأثيره لدعم موقفه، وبين مصالح العامة التي لا يوجد لها نصير يدافع عنها من خارج الحلبة، فيضطر في بعض الأحيان إلى الرضوخ لهذا اللوبي اعتقادا أنه مؤثر أو درأ لمفاسد أو مواجع لا يريد تنكئتها. ولهذا تلجأ بعض الدول لمعالجة هذا الموقف عبر وضع برنامج زمني محدد في الغالب يكون قصير الأجل مدته لا تتجاوز سبع سنوات حتى لا تكون الإعانة زواجا أبديا لا يمكن الانفكاك منه.

معونات الطاقة

بعد هذه المقدمة الطويلة لنفحص موضوع "إعانات" الطاقة وفقا لهذه المعايير. ولنأخذها في قالب المؤيدين لها؛ يقول المنافحون عنها، وهم بالمناسبة كثر بين مهرب ديزل وبين مصنع لمواد تستهلك طاقة مكثفة وبين متاجر بالمشاعر يريد جماهيرية مفقودة وبين صادق لكني أختلف معه، إن الإعانة مستحقة لأسباب كثيرة منها: أن ذوي الدخل المحدود سيتضررون من رفع الدعم للطاقة، وأن الصناعة, وهي هدف استراتيجي, ستتأثر وهذا خطر لأن فيه تكريس للاعتماد على البترول، ويسوقون الأمثلة والحجج المختلفة التي تدور في الدائرة نفسها.
المشكلة الرئيسة أن حجج المؤيدين لدعم الطاقة لا تبدأ من النقطة الصحيحة وهي: ما هي الشريحة المستهدفة من إعانات الطاقة؟ وهل هذا هو الطريق الأمثل لمنحهم إياها؟ وإنما يقفزون إلى نقطة أبعد، وكأن ما قبلها أمر مسلم به لا نقاش عليه وهو غير صحيح. فأولا، إن كانت الشريحة المستهدفة هم ذوو الدخل المحدود، فهل هم أكبر من يستهلك هذه السلعة؟ الجواب بكل وضوح لا، ورغم أن الطاقة تحتوي على عشرات المنتجات، كالبنزين والديزل والكيروسين ووقود الطائرات والغاز والكهرباء وغيرها، إلا أنه إجمالا يمكن القول – وباطمئنان - إن المستهلك الأكبر لهذه المنتجات على تنوعها هو ليس ذوي الدخل المحدود. إن كنا مطمئنين إلى هذا القول، أمكننا التوقف دون الدخول في متاهات أخرى وأمكننا تقرير أن إعانة الطاقة ليست الآلية الأنسب لإعانة ذوي الدخل المحدود. وفي كل بلدان العالم تتم إعانة ذوي الدخل المحدود عبر تقديم مساعدات مباشرة نقدية مثلا أو عينية كتوفير سكن، أو تأمين طبي أو تكلفة تعليم أو غيرها، ولا يتم إعانتهم عبر تقديم وقود طائرات رخيص أو غاز مسال مخفض عشر مرات!
ولكن لنفترض جدلا أن ذوي الدخل المحدود مستفيدون "كبار" من إعانة وقود الطائرات أو الكيروسين مثلا. فهل هذه هي الاستفادة الأمثل؟ بمعنى آخر، ألا يوجد طريق آخر لتوجيه هذه الإعانة لهم مباشرة بدلا من الالتواء خلف وقود الطائرات والغاز؟ يوجد ألف طريق وطريق أكثر دقة بدلا من الانطلاق من عرعر إلى نجران مرورا بالقاهرة! قد يجيب المدافعون بالقول إن هناك آليات متعددة لدعمهم ويقرون بأن هذه الإعانة لا تستهدفهم، وإنما تنسكب الآثار عليهم وبالتالي فهي إعانة محققة لأكثر من هدف، دعم ذوي الدخل المحدود ودعم القطاعات المستفيدة من الطاقة. هنا نحن في مواجهة هدفين مستقلين، الأول هو إعانة ذوي الدخل المحدود، والثاني هو إعانة قطاع الصناعة. فإن أقروا بهذه الجزئية فإذا يجب أن نتوقف عن التعلق بأهداب ذوي الدخل المحدود لأن لدينا طرق أسهل بكثير للوصول إليهم، وبالتالي لنناقش صلب الموضوع وهو استحقاق الشريحة الموجهة لها إعانة الطاقة. وأقواهم صوتا وحجة هم الصناعيون – خاصة من صناعة البتروكيماويات - متكئين على حجة أن دعم الصناعة سياسة ضرورية لأنها طريق من طرق تنويع الاستثمار بدلا من الاعتماد الكبير على النفط.

مفهوم "تنويع الاستثمار"

هنا، أعتقد أن هناك اضطراب في مفهوم "تنويع الاستثمار" وهناك تهويل من الاعتماد على النفط أدى إلى أن نؤمن بكل ما يمكن أن يطرح ونعتقد أنه طوق النجاة. كأن الدنيا ستنتهي غدا ولن يشتري أحد بترولنا. الحقيقة الأولى التي يجب أن نؤمن بها هي أن الله هو الرازق الكريم وكما فجر ينابيع الذهب الأسود من باطنا أراضينا قادر تفجير مصدر آخر في مكان آخر بكل سهولة كلمة "كن"؛ والأمر المرتبط به أيضا هو أن تنويع الاستثمار لا يعني ضمانة من نوائب الدهر والأزمات الاقتصادية فكما شاهدنا أمام أعيننا كيف عصفت الأزمة العالمية الحالية بأعرق البيوت المالية والصناعية التي لم نكن نتخيل في يوم من الأيام أن تتضعضع مع أن الشرارة كانت في القطاع العقاري ومع هذا اكتسحت النيران قطاعات لا حصر لها؛ وعليه فليكن تناولنا للموضوع دون حاجة إلى إعلان حالة طوارئ غير مبررة لتمرير الأوهام. الحقيقة الثانية، تنويع الاستثمار لا يقتضي ولا يستتبع ضرورة أن يكون البديل هو الصناعة. ورغم أنني مع دعم الصناعة بترشيد وبسياسة واضحة وليس مجرد الدعم فقط ركوبا لموضة أهمية الصناعة، إلا أن الحقيقة هي أن الصناعة ليست كل شيء وليست أهم شيء؛ ذاك عنوان الستينات والسبعينيات أما اليوم فهناك أشياء أخرى تنافسها إن لم تكن تبزها أهمية. خذوا على سبيل المثال قطاع الخدمات. هذا القطاع يعد أسرع القطاعات الاقتصادية نموا وفيه ثلث الوظائف في العالم، وفي أمريكا كل عشر وظائف ثمان منها في قطاع الخدمات. والقطاع الخدمي أكثر قابلية للتصدير من غيره، بل يمكن تصدير الخدمات دون مغادرة البلد، فمعالجة المريض الذي يأتي إلى مستشفى في الرياض تعني أن تقديم خدمة العلاج صدرت خارج الحدود – إذا كان مقابلها مبلغا ماليا خارجيا. القطاع الخدمي يسهم مباشرة في خلق الوظائف وفي تنويع مصادر الدخل وفي التنمية، شاملا تقديم الخدمات العلاجية، والتعليمية والتدريبية المحاسبية الهندسية التسويقية والبحثية والقانونية والتقنية والمقاولات والسياحة والنقل والجمارك والعمالة... إلخ. قطاع عريض لا حصر له. باختصار هو قطاع حيوي، يتسارع نموه بشكل مدهش، والأهم أنه قطاع يمكن للصغار أن يخترقوه كما يمكن للكبار، وليس حكرا فقط على كبار الرأسماليين، فلا يستلزمك رأسمال ضخم لبدء مكتب أبحاث مالية، أو مكتب محاماة، بينما هناك مصاعب شتى تحول دون إنشاء مصنع. باختصار مرة أخرى، محاولة إقناعنا أن الصناعة هي المستقبل أظنها غير مستساغة تماما. هذا شيء.
الشيء التابع لهذه الجزئية الذي ينادي به الصناعيون هو القول إنه من الهدر تصدير ثرواتنا الطبيعية وإعادة استيرادها بعد أن تضاف لها قيم اقتصادية متعددة. وهذه نقطة أوافقهم فيها. ولكنهم لا يضعون لنا أية ضوابط سوى الكليشة المفتوحة وهي ضرورة دعم الصناعة هكذا مثل الشيك الموقع على بياض. أتفهم ضرورة الدعم لخلق قيم اقتصادية مضافة لثرواتنا الوطنية ولكن بشريطة أن يكون المردود لهذا الدعم عاما بشكل أكبر. فما هو الهدف الوطني هنا؟ وهل هذه الآلية هي الأمثل؟ ومن المستفيد من دعم الصناعة المرتبطة بالنفط؟
لا تبدو الإجابات سهلة. فرغم أن الهدف الوطني هنا واضح وهو دعم الصناعة التي نملك فيها ميزة نسبية عبر تقديم طاقة رخيصة، إلا أن الشريحة عائمة نوعا ما، فالشريحة المستهدفة غير واضحة — فهل الحكومة تريد دعم التجار وزيادة ثرائهم؟ ربما. الشيء الأكيد أن الحكومة لو أرادت دعم الشريحة محدودة الدخل فهي من سيقوم بتكرير وتصنيع المنتجات البترولية وتوزيع العوائد على المحتاجين. وهذا أمر فطنت له الدولة أخيرا فقامت بالنهوض ببعض المشاريع البرتوكيميائية مع شركات خاصة وطرحها للاكتتاب ليشارك الناس في الاستفادة من دعم الحكومة لأسعار الطاقة. بالطبع لا تبدو هذه هي الوسيلة الأمثل لأن من يشتري الأسهم في غالب الأحوال هم من القادرين ولكنه أضعف الإيمان، ولكن تبدو تكلفة لا تمانع الدولة في منحها مقابل العوائد الاقتصادية التي ستعود على الاقتصاد السعودي. دون الدخول في تفاصيل، المهم في هذه الجزئية أن نقرر أن ذوي الدخل المحدود لا يمكن أن يستفيدوا بدرجة أولى من هذه الصناعة، ولا أعتقد أنهم يستفيدون ولا بدرجة عاشرة إلا إن كانت الاستفادة المرجوة هو العمل حارس أمن في مصنع براتب 1500 ريال تدفع الدولة نصفه! لا أريد أن أقلل من الانسكاب الممكن من مثل هذه المشاريع ولكن في المقابل كفانا تضخيما لها، فكم من مشروع يتكئ على مادة أولية تستخرج من باطن مملكتنا وينحصر استغلاله بشكل أكبر في شركة خاصة أو بضعة أفراد. وليست كذلك دعوة للاشتراكية، بل هي دعوة للموازنة وعدم خلط الأمور. فإن كان الدعم مثمرا يستفيد منه البلد بشكل مستحق، فبها وأنعم، وإن لم يكن فما مبررات الإصرار عليه - بخلاف اللوبي؟ وبما أنه موضوع لا يمكن الجزم به فلا يمكن القطع بالفوائد وعلى المدعي البينة وهي بينة لم نرها "رقميا" إلى اليوم بشكل مقنع.

من يزايد على ذوي الدخل المحدود؟

وبالتالي النتيجة التي أريد أن نخرج بها هي أنه من اللغو أن نزايد على ذوي الدخل المحدود واستفادتهم من هذه المشاريع هكذا دون إثبات. الجزئية المهمة أيضا في هذا الموضوع، أن الدولة تمنح التجار هذه الميزة دون قيود زمنية وهذا إسراف غير مبرر ومن دون فحص لحجم المكاسب المتحققة للاقتصاد الوطني.
كما أن هذه الصناعة ليست مبلغ آمالنا ولا منتهى طموحنا. فكم هي المصانع التي تأخذ المواد الأولية وتحولها إلى منتج آخر، وكل هذا بأسعار مدعومة، ثم تقوم بتصديرها إلى الخارج بعد أن قامت بعملية وحيدة – من "رمل" إلى "طين" مثلا. ثم يحدث لذلك المنتج بعد تصديره عدة عمليات تحويلية ثم نقوم باستيراده بعشرة أضعاف قيمته. فهل هذا هو الأسلوب الأمثل لدعم الاقتصاد السعودي؟ أشك.. أعتقد أن الأسلوب الأنسب هو التحفيز الجاد للمصانع على القيام بعلميات تحويلية إلى آخر السلم التحويلي بدلا من الاكتفاء بعمليات ابتدائية لنحصل على معظم الفوائد من ذلك المنتج. هذا قد يكون عبر الاستمرار في تقديم الدعم ولكن تقييد التصدير فقط للمنتجات النهائية أو شبه النهائية، وفرض تعرفة جمركية على تصدير السلع غير النهائية حتى نخلق الحافز للمصانع لاستقطاب التقنية والشركاء الأجانب في تطوير العملية التصنيعية، أما مجرد الاكتفاء بتحويل منتج من "شجرة" مثلا إلى "لوح خشب" فلا يكفي إذا كانت هناك إمكانية لتحويله إلى كرسي جاهز للاستعمال.
أتقبل - كانطباع شخصي - دعم المشاريع الصناعية التي نملك فيها مزايا نسبية لفترة محدودة تكون مقيدة لفترة لا تتجاوز عشر سنوات ولأجل وصولها إلى أقصى درجة ممكنة في الكفاءة، وبعد هذا تعامل معاملة السوق حتى تستطيع الوقوف على قدميها. ألا ترون الرضيع لو استمرت أمه في إرضاعه لما انفطم ولكن لأن هناك جدولا زمنيا محددا لا يمكن تجاوزه ولأن الهدف الأكبر هو مصلحة هذا الرضيع فتبادر أحب البشر إليه إلى فطامه حتى وإن كان قلبها يتقطع على بكائه لأنها تعرف أن الوقت قد حان لمرحلة أخرى وأن مصلحته في الترقي إلى الدرجة الأعلى. الدعم الحكومي مشابه لهذه الصورة. مصانع لا تستطيع الوقوف على قدميها من تلقاء ذاتها، فترضعها الحكومة حتى لا تموت ولكن يفترض أن هناك نقطة فطام يجب أن تحدد بكل حزم، لا أن يتم تأجيلها أو التردد في أعمالها كل ما ازداد الصراخ.
أيضا، لا ننسى الانتباه إلى أن النقاش – أعلاه - تمحور حول الصناعات التي نملك فيها "مزية نسبية" وليس كل شيء يمكن تصنيفه على أنه صناعة. وهذا تفريق لا يخرج على السطح كثيرا. فتجد الإقحام العام لعموم الصناعات بشكل مفرط وكأن كل مصنع يجب دعمه، وكأن كل مصنع يجب علينا تقديسه والاهتمام برعايته رعاية مفرطة. وهذا تضليل. فالدعم يجب أن يحدد من يجب أن يستفيد منه والفترة الزمنية وأن تتم مراجعته باستمرار لا أن يكون ملقى على عواهنه. لأن الدعم يجب أن ينمي شيئا نعتقد أن له إمكانية الحياة والعيش في بيئتنا لا أن نقتحم كل شيء حتى وإن كنا لسنا أهله. يجب أن يكون هناك توجه واضح لما يجب أو ممكن دعمه بأسعار طاقة منخفضة وبين من يجب أن يصارع قوى السوق معتمدا على ذاته. فهل يعقل أن أسعار الطاقة تبقى منخفضة لدرجة أن أغرت مصانع أجنبية 100 في المائة لا تقوم بأية عملية تصنيع على الإطلاق ولكنها تتلاعب باتساع حجم الدعم لأجل تهريب المنتجات النفطية. هذه المصانع المملوكة لحفنة من مجرمي الدول إياها، وجدت هوة واسعة جدا لا تضيق عن أحد فحشرت نفسها مع الجميع ولأن الدعم عام وغير محدد أمكنها من خلق شبكات تهريب محترفة لنهب خيرات بلدنا. هذه السياسة التي لا تفرق وغير المحدودة بزمن تضر أكثر مما تنفع. ويجب أن تراجع لا أن تبقي الباب مفتوحا على مصراعيه بدون ضوابط تعكس الصالح الوطني قبل كل شيء.
ختاما، بعد هذا الاستعراض الطويل لموضوع الإعانات أعتقد أنه يجدر بنا التركيز على منهجية لتحليل الموضوع لا أن نزايد على موضوع شريحة ذوي الدخل المحدود وندندن عليها بسطحية مجردة ونخوف من المساس بمكتسباتهم وكأنهم هم المقصودون بها أو المتضرر منها. الحقيقة الواقعية أنهم لا يعرفون عن إعانة وقود الطائرات ولا عن أسعار الغاز ولا عن الكيروسين ولا الأزفلت - تخيلوا حتى الأزفلت مع أنه لا يمت إلى الطاقة بصلة قرابة. لابد أن نضع منهجية واضحة لتقديم الإعانات فليست ثروات البلد حمى مستباحا حتى يتم تمزيقها كيفما اتفق. ليكن هناك وضوح في كل إعانة تقدمها الدولة، وتحديد من هم المستفيدون، والبرنامج الزمني، والآلية للمراجعة والتقييم. حتى وإن رضخنا لبعض الضغوط يجدر بنا أن لا نستسلم؛ فالبلد مليئة بالزوايا الأكثر احتياجا من شركات ظلت ترضع بلا انقطاع من خيرات بلدنا وثرواتها، وبعض ملاكها لا يشاهدون إلا في شوارع لندن ومنتجعات الألب. لا أشك أن للإعانات الحكومية دورا هائلا يمكن أن تقوم به لو تمت إعادة فرزها وتمحيص أدوارها والمستفيدين منها، وإعادة هيكلتها بعدسة جديدة. إن محدودية المنفعة الناتجة من انخفاض أسعار الطاقة تدعو إلى إعادة التفكير للاستفادة منها بشكل أكبر، على المديين البعيد والمتوسط، لتنعكس على رفاهية الشرائح المقصودة لا أن يتم نثرها في السماء ليلتقطها الأطول نفسا والأكثر ضجيجا.
أخيرا، أعتقد أن الموضوع أخطر بكثير من تركه فقط مجالا للشد والجذب على صفحات الصحف، فالموضوع يتعلق بثروات الحاضر والمستقبل ولا يمكن تركه هكذا معلقا دون اتخاذ قرار حاسم يعلن التوجه الصريح للمملكة فيما يتعلق بالدعم الحكومي لأسعار الطاقة. لهذا وبدلا من الانتظار المكلف، أقترح تشكيل هيئة عليا ترتبط بخادم الحرمين الشريفين يكون همها الوحيد رسم التوجهات الرئيسية لأسعار السلع المدعومة على أن يكون من بينها ممثل من الأسر التي تعولها وزارة الشؤون الاجتماعية على الأقل — أما التأجيل والتأني في مشاهدة الدماء تنزف فمآله أن يدمي الجرح أكثر وأكثر ولن يتوقف النزف إلا بعد خروج آخر قطرة. الاختيار لنا فهل نستبق الأحداث أم ننتظر إلى ما لا نهاية؟.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي