توحش الثقافة.. الإدارة بالتسلطن

كل مجتمع عنده من الموارد ما يكفيه للنهوض بنفسه وتدبير شوؤن حياته ولكن الفرق بين المجتمعات هو حسن إدارتها لمواردها, فحسن الإدارة ينتج التقدم وسوء الإدارة ينتج التخلف, وأهم مورد من بين هذه الموارد على الإطلاق هو الإنسان. الإدارة لم تعد تعرف أنها تسخير للآخرين لإنجاز أعمال محددة ومهمات معينة, بل هي تدبير وتوظيف حكيم للموارد للوصول إلى أهداف وغايات مرجوة ومبرمجة. الإدارة تتطلب الحكمة ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا. والحكمة في الإدارة لا تتحقق إلا بركنين عظيمين هما العدالة والرحمة أو الإنسانية, ولهذا فلقد تخلى العالم عن مفهوم التنمية الاقتصادية أو المادية فقط لصالح التنمية الشاملة لأنه قد تحقق له أن التنمية لا تدوم إلا بالعدل والتوازن والعدل يتطلب ألا يجعل الإنسان من نفسه فقط محورا التنمية بل يجب أن تتسع عدالته ونظرته لتشمل البيئة ومتطلباتها, ومن هنا جاءت فكرة التنمية المستدامة التي تشكل بداية لعودة الإنسان إلى طريق الحق وممارسة دوره كخليفة لله على هذه الأرض.
أما إدارة الإنسان فهي ليست كإدارة غيره من الموجودات, فالإنسان عنده مخزون ممتد من الطاقة البدنية والفكرية والنفسية والروحية ولا ننجح باستخراج والاستفادة من هذه الطاقة المتعددة والمتجددة إلا بإدارة عادلة وإنسانية لهذا الإنسان. الإنسان عندما يظلم وتنتزع منه إنسانيته بالقوة والإكراه فقد يخضع ويستسلم لمن ظلمه أو قهره ولكن هذا الظلم وهذا القهر يعطل عنده كل قواه ومصادر الطاقة العظيمة التي عنده. الإدارة الإنسانية هي التي تفجر في الإنسان طاقاته الفكرية والنفسية والروحية, وفي غيابها يتحول الإنسان إلى كائن وموجود ضعيف لا حول ولا قوة له, فلا إنتاجية لأن البدن كسول ولا تفكير لأن العقل معطل ولا همة ولا طموح لأن النفس ذليلة ومقيدة ومسجونة. الإنسان يجود بما يحويه من طاقة بمقدار ما تتحقق من إنسانيته والإدارة إذا لم تؤسس على هذا المبدأ وتهتم أولا بالحفاظ على إنسانية الإنسان فإنها حتما ستفشل وسيخسر الإنسان والمجتمع معا بسبب هذه الإدارة الفاشلة.
كما أن التربية المستبدة تحطم شخصية الإنسان فإن الإدارة المتسلطنة وغير الإنسانية هي الأخرى تحطم الإنسان وتشل قدراته وتجعل منه يعمل ولكن بلا إنتاجية, ويفكر بلا هداية ولا إبداع, ويحلم ويتطلع ولكن بلا همة ولا عمل ولا نشاط. الإدارة المتسلطنة تعطل حركة المجتمع, وفي ظل هذا التعطيل تتعاظم فرص انزلاق المجتمع في دائرة الفوضى وعدم الاستقرار, وعندها تكون الأجواء مهيأة لقبول الدعوات والخطابات التي تنشر الكراهية وتثير الفتنة بين فئات المجتمع.
أما ما هي معالم الإدارة المتسلطنة التي بفضلها افتقدت المجتمعات العربية القدرة الثقافية للنهوض بنفسها؟ إن مثل هذه الإدارة كانت أداة من الأدوات الفاعلة في تحطيم شخصية الإنسان العربي ولن تعود القوة والتماسك لهذه الشخصية إلا عندما تكون عندنا إدارة إنسانية تحفظ للواحد منا إنسانيته وحقوقه وكرامته. وهناك معالم كثيرة جعلت من الإدارة العربية إدارة متسلطنة ولكن يمكن ذكر بعض هذه المعالم وباختصار:
1- إدارة مبنية على عدم الثقة: لا يمكن أن تكسب الإنسان وتجعله مستعدا للعمل والعطاء وأنت لا تثق به, فالإنسان المشكوك به يعوزه الحماس لتقديم أفضل ما عنده بل ربما يدفعه هذا الشك به مع مرور الزمن إلى التفكير وربما القيام بممارسات ضارة بالمجتمع أو المؤسسة التي ينتمي إليها. وعقلية الإدارة العربية مع الأسف تنتهج مبدأ الشك بالإنسان العامل, وبالتالي تبرر لنفسها القيام بممارسات المضايقة والضغط والإسراع باستخدام العقوبة, وكل هذه الأمور تحطم شخصية الإنسان وتنال من ثقته بنفسه. أما الإدارة الإنسانية فتهتم كثيرا بتعزيز أجواء الثقة لأنها تؤمن بأن عدم الثقة توجب المراقبة المستمرة, وفي هذا استنزاف للموارد من دون نتيجة لأن الإنسان المراقب سيجتهد في أن يعطي من نفسه أقل قدر ممكن من الإنتاجية. أما الإنسان الذي يشعر بالثقة فإنه سيقابل ذلك بشعور إيجابي يدفع به للحرص على عمله والاجتهاد في تحسين إنتاجيته. والإدارة المبنية على عدم الثقة هي إدارة مركزية والمركزية هو عقم إداري لا ينتج في الغالب إلا قرارات عاطلة وخاطئة وغير مستوفية متطلبات النجاح.
2 - إدارة لا تهتم بتكافؤ الفرص: لعل أكثر ما تتهم به الإدارة العربية أنها إدارة محابية ومتحيزة وغير معنية بوضع الشخص المناسب في المكان المناسب. وشعور الإنسان بأن كفاءته وقدراته لا تكفي للصعود به إداريا ومهنيا يجعل منه إنسانا محبطا وليس عنده من الحماس والدافعية لتطوير أدائه وتحسين إنتاجيته, بل الأخطر من ذلك أنه ربما يتحول هذا إلى شعور بالدونية والإهانة فينتقم لنفسه بممارسة العصيان الخفي وبذلك يخسر المجتمع مثل هذه الكفاءات إن لم تتحول إلى مجالات قد تضر بالمجتمع.
3 – لا تهتم بتوفير البيئة المنتجة: من مصائب الإدارة العربية أنها تريد من الإنسان أن ينتج وتحمله وحده مسؤولية ذلك وتهتم كثيرا بالخطاب الأخلاقي لإثارة الحماس والدافعية للإنتاج ولكن لا تكلف نفسها بإعداد البيئة المنتجة. إذا كان هناك ضعف في الإنتاجية فذلك تتحمله الإدارة, وبالتالي فالإدارة عليها أن تهتم وتجتهد في تنظيم بيئة العمل, والإنسان بطبيعته يستجيب للبيئة المنظمة. وعندما تهتم الإدارة بتأسيس البيئة المنتجة فإنها ستعطي المجتمع إنسانا منتجا, وعلماء السلوك الإنساني يراهنون في موضوع سلامة المجتمع واستقراره على وجود الإنسان المنتج, لأن مثل هذا الإنسان هو إنسان متوازن ومسالم ومتعاون وأكثر قدرة على التواصل مع الآخرين.
4 - إدارة استعلائية: الإدارة المتسلطنة نزاعة للممارسات التي فيها تحكم وسيطرة وانفراد في اتخاذ القرار وتغييب للآراء المخالفة والاجتهادات التي لا تتوافق مع تفكيرها. فهذا النوع من الإدارة يعيد تنظيم العمل وتوزيع الصلاحيات لتسمح لفئة معينة بالتحكم في كل تفاصيل العمل ويصبح عندها الإنسان مستعبدا ومنفذا للأوامر بلا رأي له. والإدارة الاستعلائية, إضافة إلى قدرتها على تعطيل القدرات وبعثرة الجهود فهي أيضا تنشغل بالشكليات على حساب الأعمال المنتجة.
أخيرا ما يجب التأكيد عليه هو أنه إذا كانت التربية المستبدة تشوه عقولنا وتعطل قدراتنا فإن الإدارة المتسلطنة التي تهتم بتحقير الإنسان والسيطرة عليه وعدم الثقة بنواياه هي الأخرى أداة فاعلة لتخريب ثقافة المجتمع وهي حلقة من حلقات تدمير الإنسان وهي فاعلة في دفعه إلى التوحش لا إلى المدنية. النهوض الإداري رافد مهم للارتقاء بثقافتنا لأن الإدارة الإنسانية لها دور كبير في تعزيز إنسانية الإنسان, وهذا ما يريده فعلا المجتمع المتطلع إلى التنمية والتطور.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي