قبل مراجعة سعر الغاز ...؟
قرأت مقالة الأخ عثمان الخويطر في جريدة "الاقتصادية" العدد 5718 بتاريخ 7/6/2009، التي أورد فيها باختصار مقترحاً لرفع سعر بيع الغاز في المملكة لزيادة إيراد الدولة. من الوهلة الأولى يبدو للقارئ أن ما ذكر في المقال سيعود حقيقة بعائد مهم للدولة، وأنه توجه سليم. والحقيقة هي العكس. وسأوضح ذلك هنا للفائدة العامة.
تحتل المملكة المرتبة الرابعة في العالم، في إنتاج الغاز واحتياطه بكميات تبلغ نحو 263 تريليون قدم مكعبة. ولعلم من لا يعلم، فإن الغاز المقصود هنا هو الذي ينتج من مكونات كربونية متعددة المصادر وهي:
1- آبار تحتوي على غاز فقط.
2- تنتج مصاحبة للنفط.
3- من عمليات تكرير النفط. وسوف نركز حديثنا هنا على الغاز الخفيف (الميثان والإيثان)، المعنيين في مقالة الأخ عثمان الخويطر، وهو غاز يباع بسعر 75 سنتاً للمليون وحدة حرارية.
منذ ثلاثة عقود كانت شركة أرامكو تحرق معظم الغاز المنتج لعدم توافر وسائل لاستعماله في ذلك الوقت، إلا في حالات محدودة جداً. وكانت ليالي الشرقية في ذلك الوقت كنهارها من الغاز المشتعل.
#2#
ومنذ قرار الدولة الاستفادة من هذه الثروة التي حبانا الله بها، وما تبع ذلك من إنشاء الهيئة الملكية وسابك وزيادة طاقة إنتاج الكهرباء وتحلية المياه، ولن أسرد هنا ما أنجز خلال العقود الثلاثة الماضية لمعرفة الكثيرين بها، فلقد استطاعت المملكة خلال عقدين من الزمن احتلال مركز متقدم جداُ صناعياً في العالم، وذلك بفضل الله ثم باستخدام الغاز الاستخدام الأمثل.
ومنذ بداية هذه المرحلة كان الغاز يباع بسعر 50 سنتاً المليون وحدة حرارية حتى تم رفع السعر إلى 75 سنتا منذ أكثر من عشرين عاماً في 1 كانون الثاني (يناير) 1989م. ويجدر أن نذكر للقارئ أن تصدير هذا الغاز (الميثان والإيثان) يترتب عليه تكاليف باهظة جداً لضرورة تسييله ثم شحنه، وهذه تكاليف تجعل تصدير الغاز المسال غير مجد اقتصادياً، مع توافر البديل الأفضل للاستخدام المحلي.
الأمر الآخر هو أن لا يوجد سعر عالمي للغاز، إذ إنه يسعَّر حسب توافره في كل دولة، وحسب استخدامه في البلد كمادة خام استراتيجية لسياسة الدولة الصناعية والاقتصادية.
إن توافر الغاز في المملكة، للصناعة أو لقطاعي الكهرباء وتحلية المياه، قد نقل المملكة من اقتصاد يعتمد تماماً على تصدير النفط فقط، إلى اقتصاد متنوع وصناعي مميز.
ولو أخذنا قطاع البتروكيميائيات الذي يستهلك نحو 25 في المائة من الغاز المحلي مثالاً لكونه أكبر القطاعات المصدرة بعد النفط، والمحركة للصناعة في المملكة، فإننا نرى أن منتجات البتروكيميائيات ومنتجاتها التحويلية والبلاستيكية، تبلغ الآن تقريباً 56 في المائة من صادرات المملكة، وبدأت أخيراً في التوسع الرأسي في الصناعات التحويلية والنهائية ذات القيمة المضافة.
لهذه الأمور إسهام كبير جداً في الدورة الاقتصادية في المملكة، تتعدى كثيراً النظرة المحدودة بزيادة إيراد الدولة عن طريق رفع سعر الغاز. فاستثمارات هذا القطاع كما نعلم، تفوق 400 مليار ريال (وربما مثل ذلك في قطاعي الكهرباء والتحلية).
ولم تنشأ هذه الاستثمارات بين عشية وضحاها وبسهولة، بل تطلب الأمر جهداً جهيداً سواء على مستوى المستثمر المحلي أو الشركات الأجنبية. إن توافر الغاز بأسعار منافسة في المملكة يعطيها ميزة مهمة لجذب الاستثمار من جميع مصادره.
وللتوضيح فإن نجاح الصناعة يعتمد على توافر أحد عاملين أساسيين على الأقل، أولاً: توافر المواد الخام بكميات جيدة كما الحال في المملكة، وثانياً: توافر السوق الاستهلاكية (في الصين وبقية دول آسيا). لذا نظراً إلى بعد الأسواق الكبيرة المستهلكة، فلا بد من أن يكون توافر الغاز بأسعار منافسة عاملاً أساسياً مهماً لنجاح الصناعة لدينا، وقدرتنا على المنافسة والوصول إلى الأسواق العالمية.
ولا تقتصر هذه الحاجة على الصناعات البتروكيميائية وحدها، بل تشمل جميع الصناعات التحويلية والنهائية والخدمات التجارية والصناعية الداعمة للقطاع الصناعي أيضاً.
كذلك في جانب مهم، تعتبر القطاعات المرتبطة مباشرة باستخدام الغاز من أهم القطاعات في توطين الوظائف حيث تقوم بتوظيف ما يزيد على 60 ألف موظف مباشر تبلغ نسبة السعوديين منهم نحو 70 في المائة، ولا يقل عن 300 ألف موظف غير مباشر في الخدمات المساندة التجارية والصناعية.
إن أي اقتراح من شأنه زيادة دخل الدولة لاشك أنه أمر محمود لحاضرنا ومستقبلنا ما لم يكن له تأثير سلبي في الاقتصاد الأكبر للبلد. لذا فإن القيام بزيادة غير مدروسة جيداً وبعمق لسعر الغاز للمستهلكين المحليين، سيخسر الاقتصاد المحلي أضعاف تلك الزيادة في الإيرادات، كما سيؤثر سلباً في خلق آلاف الفرص الوظيفية .
وبتحليل بسيط، فإن كل دولار من الغاز المستخدم في المملكة بالسعر المعتمد الآن يجلب للاقتصاد المحلي نحو 16 دولاراً قيمة مضافة من الصناعات المباشرة الأساسية والتحويلية والبلاستيكية، ومثل ذلك من الصناعات والخدمات غير المباشرة.
دعونا ننتقل إلى أمر آخر، إن الشركات المحلية المستعملة للغاز (الميثان والإيثان) والمدرجة على سوق الأسهم السعودية هي 12 شركة، بمجموع أسهم مصدرة 12 مليار سهم، تمتلك مؤسسات الدولة 7 مليارات سهم أي نسبة 58 في المائة من رأسمال هذه الشركات، والباقي حصة مستثمرين و متداولين في سوق الأسهم. لذا فإن الحكومة تعد المستثمر والمستفيد الأول في نشاط هذه الشركات.
أما عن الشركات الأجنبية التي ذكرها الأخ عثمان، فيجب ألا نخدع أنفسنا، أن وجود هذه الشركات منذ البداية كان عاملاً مهماً جداً وضرورياً لنقل التقنية وخبرة التشغيل والإدارة إلى المملكة. وقد كان ذلك قراراً حيوياً لنجاح الصناعات ولتأهيل الكفاءات الوطنية.
وما زالت الدولة تبذل الجهد والمال بسخاء لجذب مزيد من الاستثمار الأجنبي إلى البلد. وللعلم فإن المستثمر الأجنبي يدفع ضريبة دخل على استثماره المحلي نسبتها 25 في المائة تعوض معظم الفائدة التي استفاد منها باستعمال الغاز.
يعتمد اقتصاد المملكة اعتماداً كبيراً على قطاعي النفط والصناعة، لذا فضروري جداُ دراسة أي قرار يمس هذين القطاعين دراسة وافية ومتكاملة. لتكن قراراتنا ضمن نطاق أشمل من زيادة إيراد الدولة من جهة بينما يخسر اقتصاد الوطن ككل أضعاف زيادة الدخل وبالتالي نحرم الدولة من دخل أكبر وفائدة أعم. إن تنويع مصادر الطاقة لتوليد الكهرباء ولتحلية المياه على الخصوص، أمر ضروري وحيوي للمملكة في الحاضر والمستقبل، وعلى الأخص الطاقة الشمسية التي نتمنى أن يكون هناك قرار استراتيجي لدعم بحوث الطاقة الشمسية وصناعتها وجعلها أولوية ومشروعاً وطنياً نلتزم تنفيذه.
أخيراً أتفق مع الأخ عثمان الخويطر في خاتمة مقاله، على أن تخضع أي دراسة جديدة لمراجعة دقيقة لدى الجهات المسؤولة للتيقن من أن المردود العام في الاقتصاد الوطني إيجابي. وبالله التوفيق.