كليات التربية.. من تربية الأجيال إلى جباية الأموال
كان لكليات التربية المنتشرة في المملكة خلال السبعينيات والثمانينيات الميلادية من القرن الماضي الدور البارز في تخريج الآلاف من الكفاءات التربوية التي استطاعت أن تقوم بدورها التربوي وأن تغطي الاحتياجات الوطنية في مجال التعليم في وقت قياسي، حيث كانت مدارس التعليم العام قبل ذلك تقوم بدرجة أساسية على المعلمين الوافدين من بعض البلدان العربية الشقيقة منذ بدايات النهضة الشاملة للبلاد، وقد شكلت كلية التربية في جامعة الملك سعود في الرياض وكلية التربية في مكة المكرمة فرع جامعة الملك عبد العزيز سابقاً التابعة لجامعة أم القرى حالياً المرحلة الأولى من هذه الكليات التي خرجت الكثير من الكفاءات المتميزة في حقل التعليم ثم أتت بعد ذلك أربع كليات أخرى كمرحلة ثانية ساندت بمخرجاتها الكليتين السابقتين وهذه الكليات كلية التربية في أبها فرع جامعة الملك سعود سابقاً وكلية التربية في المدينة المنورة فرع جامعة الملك عبد العزيز سابقاً وكلية التربية في جامعة الملك فيصل في الأحساء وكلية التربية في الطائف فرع جامعة أم القرى سابقاً.
هذه الكليات التي استطاعت باقتدار وكفاءة ملموسة تخريج الآلاف من المعلمين والمعلمات الأكفاء واستطاعت توطين وظائف التعليم العام في غضون عقدين من الزمن كانت تقوم على المنهج التكاملي في تقديم برامجها بمعنى أن يدرس الطالب/ الطالبة المقررات التربوية في كل فصل دراسي جنباً إلى جنب مع مقررات التخصص سواء كان التخصص في مجال العلوم الإنسانية أو مجال العلوم الطبيعية وبهذه المنهجية كان الطالب/ الطالبة يتخرج خلال أربع سنوات وهو مهيأ للتدريس علمياً في مجال تخصصه وتربوياً في مجال العلوم التربوية، ولم تقتصر مخرجات هذه الكليات على تغذية التعليم العام بالكفاءات المطلوبة بل امتد دورها إلى تزويد التعليم العالي بالكثير من الكفاءات الأكاديمية التي تشارك الآن بفعالية في تحريك دفة الجامعات علمياً وتعليمياً وإدارياً بعد أن أكملوا دراساتهم العليا بجدارة في الجامعات الأوروبية والأمريكية المعروفة.
ولكن منذ ما يزيد على عشر سنوات بدأت موجة من التغيير في هياكل البرامج الخاصة بهذه الكليات وقد انطلقت هذه الموجة من كلية التربية في جامعة الملك سعود نتيجة التأثر بطريقة برامج كليات التربية في الولايات المتحدة على وجه التحديد وتحت تأثير العدد الكبير من الأساتذة الذين تلقوا تعليمهم العالي في الولايات المتحدة دون أن يأتي هذا التغيير نتيجة لدراسات علمية مستقلة نابعة من واقعنا كما يفترض أن يأتي أي تغيير، والتغيير الذي حملته هذه الموجة يتمثل في استبعاد النظام التكاملي المشار إليه واستبداله بالنظام التتابعي القائم على فكرة دراسة التخصص وحده لمدة أربع سنوات كاملة وبعد التخرج يتقدم الطالب أو الطالبة إلى ما يعرف بالدبلوم التربوي لمدة عام كامل أي أن على الطالب أو الطالبة الآن قضاء خمس سنوات كاملة حتى يكون معلماً تربوياً مؤهلاً للتعليم في المرحلتين المتوسطة والثانوية، ليس هذا فحسب بل إن الالتحاق بالدبلوم التربوي يأتي وفق رسوم مالية تختلف قيمتها من جامعة إلى أخرى ويعد دفع الرسوم المالية الشرط الأساسي في القبول بهذا الدبلوم، وهنا تبرز الخطورة في تغليب الجانب المادي في كليات التربية على الرغم من أن هذه الكليات تعمل تحت مظلة الجامعات الحكومية التي تتلقى ميزانيات سنوية ضخمة لا يحتاج معها إلى الالتفات إلى جيوب الطلاب والطالبات.
هذا الوضع الجديد المتمثل في تبني النظام التتابعي أدى إلى نتائج سلبية عديدة يأتي في مقدمتها تخلي كليات التربية عن دورها الوطني في تزويد التعليم العام بالمعلمين والمعلمات انطلاقاً من رسالتها التي وضعت من أجلها إلى السعي غير المبرر في تكليف الطلاب بدفع مبالغ مالية وبدأت كليات التربية الآن التنافس مادياً في وضع العديد من البرامج التربوية المستقلة كبرامج الإرشاد النفسي فتحولت هذه الكليات إلى ما يشبه الشركات الغربية التي ولدت في أحضان الرأسمالية وانحرفت رسالتها وأهدافها من خدمة الوطن والمجتمع إلى استدرار جيوب الطلاب أو بمعنى آخر حلت فكرة المال والجشع محل الأهداف التربوية النبيلة واغتالت فكرة المال فكرة التربية وهذا الوضع أدى بطبيعة الحال إلى تخريج تربويين ماديين في الآونة الأخيرة لا ينظرون إلى دورهم التربوي إلا من خلال زاوية المال.
كما أدى هذا الوضع أيضاً إلى التحاق الكثير من الخريجين غير التربويين في مجال التعليم دون أي تأهيل في المجال التربوي فوزارة التربية والتعليم ترحب بأي خريج لسد الاحتياج بغض النظر عما إذا كان الخريج تربوياَ أم لا فالنظام يعطي الحق للخريج غير التربوي التعيين على المستوى الرابع الذي لا يختلف في قيمة العلاوة السنوية عن المستوى الخامس المخصص للتربويين، إضافة إلى ما ذكر من سلبيات فإن زيادة عدد السنوات إلى خمس سنوات ليكون المعلم تربويا فترة طويلة ليست ضرورية تكلف المجتمع والطلاب جهوداً كبيرة غير مبررة.
وانطلاقاً من المصالح العليا للبلاد نقترح على المجلس الأعلى للتعليم أن يشكل لجنة من الخبراء المحايدين لدراسة هذه التحولات غير المدروسة في برامج كليات التربية فقد مرت عليها فترة من الزمن ليست قصيرة على أن تقارن بالنظام القديم وهو النظام التكاملي من خلال التركيز على المخرجات لهذين النظامين في إطار الوضع العام لبلادنا بما في ذلك سياسة التعليم وبيئتنا التعليمية ومرحلة النهضة التي نمر بها، وليس من المبالغة أن نتوقع رجوح كفة النظام التكاملي مما يكفل عودة كليات التربية إلى رسالتها وأهدافها الأولى وهي خدمة الوطن تربويا بعيداً عن أي حسابات مادية.