المستثمر الفرد بين مشورةٍ غائبة وشائعةٍ طائشة .. فأين المخرج؟

من المؤكد أن معظم القراء يعلمون مقدار المعاناة التي تعرض لها المستثمرون الأفراد في المملكة وفي دول مجلس التعاون بشكل عام فقد أغراهم الجشع فصبوا كل مدخراتهم في الأسهم السعودية وقت فورة السوق، ومن ثم انقصمت ظهورهم بانهيار السوق منذ مطلع عام 2006م وبعدها في 2008م.
لماذا حصل ذلك؟
لأسباب عديدة، من أهمها انقياد المستثمرين الأفراد لغريزتي الجشع والخوف كما تطرقنا له في مقال سابق بتاريخ 01/06/2009م، ولكن العنصر المساعد لاستفحال غريزتي الجشع والخوف وعدم كبح جماحهما هو انخفاض جودة الخدمة والتي كان يقدمها موظفون غير مؤهلين في الاستثمار وغير مبالين بالمستثمر الفرد العادي. حيث كان اهتمامهم ينصب في معظم الأحوال على بيع منتجات البنك الاستثمارية وليس تقديم التوجيه والمشورة، فموظف الاستثمار يكافأ في كثير من الأحيان على بيع المنتجات وليس على تقديم المشورة. كما أن مكافأة بيع المنتجات عادة ما تكون أكبر بالنسبة للمنتجات عالية المخاطر (كصناديق الأسهم) من تلك التي تنطوي على مخاطر أقل (كصناديق المرابحة) نظراً لانخفاض ربحيتها بالنسبة لمديريها. هذا الأمر نتج عنه تضارب كبير في المصالح بين الشركات الاستثمارية والمستثمرين الأفراد. وحتى لو وُجد من المُستشارين من يهتم بتقديم المشورة فإن خبرتهم ودرايتهم وتأهيلهم في عالم الاستثمار عادة ما تكون ناقصة أو غائبة. فعلى سبيل المثال كنت قبل فترة أقدم دورة عن الاستثمار لعدد من موظفي الشركات الاستثمارية، وعديد منهم مسؤولون عن بيع المنتجات الاستثمارية على الجمهور، وقد كان من دواعي دهشتي أن عديدا من هؤلاء الموظفين لم يكونوا يعرفون حتى الفرق بين صناديق الأسهم والمرابحة, ففاقد الشيء لا يعطيه.
هذا الوضع المؤسف أدى إلى غياب تام للتوجيه الاستثماري الصحيح، أو حتى في بعض الأحوال انتشار النصائح السيئة والإشاعات وأنصاف المعلومات. هذه الأسباب اجتمعت لتصبح غُولاً يفتئت على مدخرات المستثمرين الصغار، ويلتهم معها آمالهم وأحلامهم.
وكمثال على هذا الشح المطلق في المعلومات الاستثمارية، فقد قابلت ذات يوم مستثمرٍا عاديا (ولنسميه أبا حمد)، فاشتكى لي من تجربته المريرة في الاستثمار. وكان أكثر ما آلم أبا حمد أنه حرص على اتباع آراء "أولي الخبرة"، فلم يغامر أو يضارب، بل استثمر في الصناديق الاستثمارية المدارة من قبل مؤسسات محترفة. كما أنه حرص على تنويع استثماراته ليس فقط على عديد من الصناديق، بل حتى بين بنوك متنوعة. ورغم ذلك كله فقد خسر أبو حمد أكثر من 50 في المائة من مدخراته مع انخفاض السوق. بعد التحقق من الأمر والاستقصاء فيه، وجدت أن أبا حمد المسكين قد أخذ معلومة صحيحة في ظاهرها، وهي أهمية التنويع، ولكنه أخطأ في تطبيقها، حيث كان يذهب إلى كل بنك ويسأله عن أفضل الصناديق لديهم، فينصحه موظف البنك في معظم الأحوال في الاستثمار في صندوق الأسهم السعودية المدار من قِبل البنك نفسه. لذا وبالرغم من حرص أبي حمد وعنايته على تنويع استثماراته وتقليص مخاطره، إلا أنه انتهى به المطاف بأن استثمر في صناديق متنوعة وعبر بنوك مختلفة ولكنها كلها كانت تستثمر في سوق الأسهم السعودي نفسه (ومن المعلوم أن التنويع بين أدوات مختلفة لا يجدي نفعاً إذا كانت هذه الأدوات تستثمر في السوق ذاته). وهكذا أدى غياب التوجيه الشمولي السليم، وتعدد النصائح، وتضارب الآراء إلى سوء الفهم الذي بدّد حرص ومجهود أبي حمد المسكين هباءً منثوراً، ومثله الكثير من المستثمرين الآخرين. وإن لم يكونوا قد خسروا بالطريقة نفسها، إلا أن الكثير من خسائرهم يمكن إرجاعها إلى غياب المعلومة الصحيحة أو أخذها من شخص غير مؤهل لها.
وفي ظل هذا الغياب للنصح والمشورة من القنوات ذات العلاقة، انتشرت وسائل المشورة غير الرسمية وغير المؤهلة في كثير من الأحيان، سواء كان مصدرها الأقارب أو الأصدقاء أو زملاء العمل أو مرتادي صالات التداول أو المنتديات أو حتى الإشاعات الطائشة التي لا يُعلم مصدرها. ولكننا بهذا نكون قد خرجنا من الإطار المنظم للمشورة الاستثمارية (ولو كان ناقصاً وغير مكتمل وله عيوبه) إلى إطار عشوائي لا رقيب ولا مسؤولية فيه. فإذا كانت شتى التخصصات تتطلب ترخيصاً وتدريباً متخصصاً لمزاولتها، من الطب إلى المحاماة إلى المحاسبة القانونية إلى الهندسة والمعمار، وإذا كان أحد منا لا يفكر يوماً بأن يجري لنفسه عملية جراحية أو أن يقوم بها لدى شخص غير مرخص، فلماذا نقبل النصيحة الاستثمارية من أشخاص لم ينزل الله بهم من سلطان؟ ولا أظن بهذا الصدد أن كون الشخص استثمر وربح في هذا السهم أو ذاك يُعد مؤهلاً كافياً لأن تُقبل نصيحته، كما أن ممارِس الطب غير المرخص الذي لم يمت أحد على طاولته الجراحية (حتى الآن) لا يجعلني أكثر ثقة به لأن أجعله يفتح بطني.
وهنا قد يسأل سائل: "إذا كانت المشورة غائبة أو معيبة من الجهات المرخصة، بينما المشورة من الجهات الأخرى تعتبر غير مرخصة وكثيراً ما تقدم من أشخاص غير مؤهلين وربما لا يُحمَد عقباها، فما العمل إذاً؟"
هنا لنا كلمة إنصاف مع هيئة السوق المالية، التي بادرت بخطوة موفقّة وهي اشتراط تسجيل أي شخص يقدّم المشورة الاستثمارية، وتحقيقه حداً أدنى من المعرفة الاستثمارية، من ضمنها اجتيازه لاختبار هيئة السوق المالية. وقد أدت هذه الاشتراطات لكشف المستور لدى الكثير من المؤسسات الاستثمارية التي انكبّت لترفع مستوى الكادر الاستثماري لديها، أو تستبدله بآخر أكثر تأهيلاً منه. ونحن نتطلع لأن تؤدي هذه الاشتراطات لبدائل استشارية رسمية ومرخصة أكثر تنويراً وفائدةً للمستثمر الفرد.
ولكن في هذا الصدد هناك أيضاً دور مهم ينبغي أن يقوم به كل مستثمر فرد منّا لتحقيق الفائدة المرجوة من مبادرات هيئة سوق المال وللقيام بدور الرقيب عليها. وهذا الدور يتلخص في التالي:
* لا تتعامل ولا تأخذ المشورة من أي شخص إلا بعد أن تتأكد من تسجيله مع هيئة سوق المال واجتيازه لاختباراتها.
* تأكد أن من يقدّم المشورة لديه معرفة كافية بوضعك المالي وظروفك وأهدافك والحد الأقصى للمخاطر التي بإمكانك تحملها، لأنه لا يمكن تقديم مشورة شمولية دون هذه المعلومات.
* اطلب من أي شخص يقدم لك المشورة أن يفصح لك سلفاً عن أي تضارب في المصالح قد يتعلق بمشورته تلك. ومن قبيل ذلك كون الشخص يحصل على مكافأة أعلى على بيع الصندوق الاستثماري الذي ينصح به عن غيره، أو امتلاك الشخص لنفس السهم الذي ينصحك بشرائه. ومن أسهل الوسائل لقياس ذلك هو سؤالك عن مبلغ المكافأة الذي سيحصل عليه الموظف من جرّاء استثمارك، فكلما كان المبلغ أكبر، كان عليك اتخاذ قدر أكبر من الحذر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي