ما خيارات دعم أسعار الطاقة
تم التطرق في المقالات السابقة إلى عدد من الأسباب المحلية التي تبرر التخلي عن دعم أسعار منتجات الطاقة، ويوجد عدد من المؤثرات والقضايا العالمية التي تعزز سياسة التخلي عن الدعم أو على الأقل التخفيف منه. وأهم هذه القضايا التي ستزداد أهميتها مع مرور الوقت مسألة الحد من انبعاثات الكربون. وبدأت تظهر آثار ارتفاع تركز الكربون على أنماط المناخ والحياة المختلفة. وسيتم بصورة متزايدة مستقبلاً تبني مزيد من الاتفاقيات الدولية وتغيير سياسات دول العالم في مجالات استهلاك الطاقة للحد من استهلاك الوقود الرافع لانبعاثات الكربون. ويسهم خفض أسعار الطاقة في رفع معدلات انبعاث الكربون للفرد الواحد في المملكة التي ترتفع فيها معدلاته مقارنةً بالدول الأخرى. وتشير تطورات اتجاه السياسات العالمية في مجال انبعاثات الكربون إلى ارتفاع إمكانية تعرض المملكة إلى ضغوط متزايدة مستقبلاً للحد من مستويات الانبعاثات الحالية، وأعتقد أنه يجب علينا أخذ هذه المسألة بغاية الجد وخصوصاً مع تزايد الآثار السيئة لهذه الظاهرة في المستقبل. وتكاملاً مع الحد من انبعاثات الكربون يتنامى في الوقت نفسه توجه عالمي لتطوير تقنيات توليد الطاقة النظيفة البديلة للوقود الأحفوري، وسيتم بصورة مستمرة دعم هذا الاتجاه من خلال تبني سياسات وأنظمة تشجع على تطوير واستخدام هذه التقنيات. من ناحيةٍ أخرى قد تتعرض المملكة لضغوط في مباحثاتها التجارية الثنائية أو متعددة الأطراف لخفض مستويات دعم منتجات الطاقة التي تخفض من تكاليف صادرات بعض السلع. وقد ترفع الصناعات المنافسة في الدول المستوردة لبعض صادرات المملكة كثيفة الاستخدام للطاقة قضايا إغراق ضد المصدرين السعوديين. وفي حالة فرض رسوم إغراق على هذه الصادرات فستتلاشى منافع الميزة التنافسية الناتجة عن خفض أسعار الطاقة.
ولهذا ترتفع أهمية دراسة آثار دعم منتجات الطاقة وترتفع ضرورة إعادة النظر في هذه السياسات والبحث عن أفضل الحلول المناسبة. وفي حالة تأخرنا في مراجعة هذه السياسات فسنتعرض مستقبلاً لضغوط خارجية وداخلية للحد من آثار هذه السياسات. ويوجد عدد من الخيارات التي يمكن للمملكة تبنيها للتعامل مع إشكالية انخفاض أسعار الطاقة المباعة محلياً. ويتمثل الخيار الأول للتعامل مع هذه الإشكالية المعمول به حالياً في ترك الأمور تسير على ما هي عليه والسماح لمعدلات استهلاك الطاقة بالنمو دون أية قيود. وفي حالة الاستمرار في هذا الخيار فستجد المملكة نفسها بعد عدة سنوات تعاني تراجع الصادرات النفطية والإيرادات الحكومية مما سينتج عنه عجوزات ضخمة في الحساب الجاري وفي الإنفاق الحكومي. وليس من المتوقع أن يعوض النمو في الصادرات غير النفطية والإيرادات الحكومية الأخرى من انخفاض الصادرات والعائدات من النفط والغاز الطبيعي. كما سيسيء تبني هذا الخيار إلى موقف المملكة في إطار المباحثات التجارية أو في إطار اتفاقيات الحد من انبعاثات الكربون. أما الخيار الثاني فيتمثل في تحرير أسعار الطاقة بصورة سريعة وكاملة، وسيؤدي مثل هذا الإجراء إلى إحداث صدمات أو هزات قوية لاقتصاد المملكة مما سيقود إلى تراجع معدلات النمو وارتفاع معدلات البطالة، ما لم يصاحب هذا الخيار سياسات تنشيطية قوية للاقتصاد تفوق في تأثيرها تأثير هذه الصدمات. ومن الجدير ذكره، نجاح سياسة دعم أسعار الطاقة وتثبيتها عند مستويات متدنية في عزل الاقتصاد السعودي خلال الـ 40 عاماً الماضية عن الصدمات الناتجة عن رفع أسعار النفط. وظلت أسعار الطاقة في المملكة شبه ثابتة وعند مستويات منخفضة منذ عام 1973م، بينما أثرت هزات ارتفاع أسعار الطاقة في العقود الماضية على الاقتصاد العالمي وأدت إلى إحداث تغيرات كبيرة في مسيرته التي منها خفض كثافة استخدام الطاقة للناتج المحلي. وفي حالة تحرير الأسعار بالكامل فإن إجمالي تأثير الهزات النفطية التي حدثت في الماضي سيقع في آن واحد مما سيؤدي إلى آثار انكماشية قوية. ومن أهم الآثار المتوقعة لتحرير أسعار الطاقة رفع تكاليف المعيشة لسكان المملكة. فتحرير أسعار الطاقة بصورة كاملة سيولد موجة تضخم قوية تزيد على 10 في المائة، وهذا سيؤدي إلى تذمر وامتعاض واسع النطاق من قبل السكان وسيؤدي تحرير الأسعار بصورة مفاجئة إلى خفض الدخول الحقيقية وخصوصاً لأصحاب الدخول الثابتة. وللتغلب على هذه الآثار يجب تعويض المتضررين من أصحاب الدخول المتوسطة والمنخفضة وحتى المرتفعة عن حجم الأضرار المتوقعة الناتجة عن تعديل الأسعار على ألا تقل مستويات التعويضات عن مستويات الخسائر التي ستعانيها الطبقة المتوسطة الناتجة عن زيادة أسعار الطاقة. ومن المستبعد أن يتم تبني تحرير كامل لأسعار الطاقة وبصورة سريعة ومفاجئة.
أما الخيار الثالث فيمكن أن يتضمن تحريراً تدريجياً لأسعار الطاقة ولعدة سنوات ويصاحب مثل هذا التحرير تحويل العوائد المرتقبة من تحرير الطاقة لتنفيذ المشاريع التي تمس حياة المواطن بصورة مباشرة مثل مشاريع وسياسات دعم إسكان المواطنين وتوفير تأمين صحي للمواطنين أو إيجاد نظام تحويلات وطني يتلقى من خلاله المواطنين الجزء الأكبر من العائدات المرتقبة من رفع أسعار الطاقة. وتتجاوز تكاليف دعم منتجات الطاقة عند أسعار 60 دولاراً للبرميل مثلاً 120 مليار ريال، حيث يبلغ نصيب كل مواطن من الدعم أكثر من ستة آلاف ريال في السنة. وفي حالة تبني نظام تحويلات وطني للجزء الأكبر من الإيرادات المتوقعة لرفع أسعار الطاقة فسيحظى تعديل أسعار الطاقة بتأييد جزء كبير من المواطنين. وسيلغي نظام التحويلات الآثار السيئة لرفع أسعار الطاقة على دخول المواطنين، بينما سيبقى تأثير رفع الأسعار على استهلاك الطاقة ويولد حوافز لرفع كفاءة استخدام الطاقة. ويمكن على الأقل تحرير أسعار الطاقة بصورة جزئية ولكن شاملة لكل أنواع الطاقة، حيث إن معدلات دعم أسعار الطاقة في المملكة هي الأعلى عالمياً فأسعار المشتقات النفطية والغاز تقل عن ربع سعرها العالمي في الوقت الحالي. ولن يؤدي التحرير الجزئي لاسترداد جميع الدعم المقدم ولكنه سيحد كثيراً من نمو استهلاك الطاقة. وفي حالة تبني تحرير أسعار الطاقة الجزئي أو الكلي فينبغي تطبيقه بصورة غير تمييزية على جميع القطاعات الاستهلاكية والإنتاجية بما في ذلك الصناعات البتروكيماوية والأسمنت والحديد والألمنيوم، حيث ستؤدي أية استثناءات إلى تسرب الدعم بين القطاعات الاقتصادية. أما الخيار الرابع فيتمثل بتبني تعديل أسعار بعض منتجات الطاقة وهذا هو الخيار الأسوأ، حيث إنه لن يؤدي إلى الحد من استهلاك الطاقة ولكنه سيقود إلى تغيير حصص منتجات الطاقة المستهلكة.
ويوجد عدد من الاقتراحات الجيدة لتبني بعض السياسات التي تدعم ترشيد الطاقة، مثل تطوير شبكات المواصلات العامة وإعادة تخطيط المدن بشكل أفضل ورفع الوعي العام بضرورة ترشيد الطاقة أو وضع تراخيص للصناعات عالية الاستخدام للطاقة وتطوير مواصفات المباني ودعم أبحاث وتقنيات ترشيد استهلاك الطاقة. ومما لا شك فيه أن هذه السياسات تدعم ترشيد استهلاك الطاقة ولكنها غير كافية في حد ذاتها لخفض النمو في استهلاك الطاقة، بل إن تحرير أسعار الطاقة مطلب أساسي لدعم تبني وتنفيذ سياسات ترشيد الطاقة الأخرى حيث سيجعلها أكثر ضرورة ويرفع من جدواها الاقتصادية. ولا يمكن بأي حال من الأحوال الحد من استهلاك الطاقة دون رفع أسعارها.
وختاما: أشكر كل من تفاعل مع هذا الموضوع وأرجو المعذرة من القراء الأعزاء على إطالتي في تناول هذا الموضوع الذي أعتقد أنه يستحق مزيدا من البحث الجاد وغير المتحيز نظراً لأهميته وتأثيره على حياة المواطنين وتنمية هذا البلد الكريم. فالكل منا في الوقت الحالي مستفيد من خفض أسعار الطاقة ولكن ينبغي ألا ننسى أن هناك فرصة بديلة للدعم المقدم وأن تكاليف هذا الدعم يمكن أن تكون أكثر بكثير من المنافع العائدة على معظم السكان.