دور الطاقات الإنتاجية الاحتياطية لمنظمة أوبك في استقرار أسواق النفط العالمية
لقد تغير واقع الطلب العالمي على النفط تغيرا جذريا منذ انهيار أسواق الأسهم العالمية في تشرين الأول (أكتوبر) 2008 ، نتيجة لأزمة الائتمان العقاري في الولايات المتحدة، والتي تحولت على الفور إلى أزمة مالية واقتصادية عالمية، لا يزال الاقتصاد العالمي يعانيها حتى اليوم، بالرغم من محاولات الدول التخفيف من حدتها. وعلى أثر هذه الأزمة تراجع الطلب العالمي على النفط بصورة كبيرة جدا. ففي عام 2008 تراجع الطلب العالمي على النفط بنحو 300 إلى 400 ألف برميل يوميا، وهو أول انخفاض له منذ عام 1985. إضافة إلى ذلك تشير معظم الدراسات إلى أن الطلب العالمي على النفط في عام 2009، من المتوقع أن ينخفض انخفاضا حادا ما بين 1.5 إلى 2.5 مليون برميل يوميا عن العام السابق، أما في عام 2010، تشير معظم توقعات المحللين إلى أن الطلب على النفط سينتعش، ولكن بصورة قليلة، حيث من المتوقع أن يزداد في حدود 0.6 إلى 0.9 مليون برميل يوميا أو أكثر بقليل عن 2009، ولكن هذا ليس بعد مؤكدا.
إن الطلب العالمي على النفط يمكن أن يتغير فجأة استجابة للمتغيرات في الظروف الاقتصادية العالمية. لكن الطاقات الإنتاجية الاحتياطية لا تستجيب بالدرجة نفسها. حيث إن الطاقات الإنتاجية الجديدة التي سيتم إضافتها في عام 2009، والتي من بينها واحدة من أكبر الطاقات سيتم إضافتها في السعودية، هي نتيجة الاستثمارات التي تم إقرارها قبل عدة سنوات، عندما كانت الأسعار مرتفعة والطلب العالمي على النفط قويا. إن الفترات الزمنية الطويلة التي تحتاج إليها الصناعة لتطوير الحقول النفطية، ترتب عليها توسع في الطاقات الإنتاجية وسط أكبر تراجع في الطلب العالمي على النفط منذ عام 1985. ما أدى إلى حدوث فجوة كبيرة بين الطلب الذي كان متوقعا على النفط، والذي على أساسه قامت الصناعة النفطية بالفعل باستثمارات هائلة لزيادة الطاقات الإنتاجية في الصناعات الاستخراجية والتحويلية على حد سواء، والطلب الفعلي حاليا. فعل سبيل المثال قبل تشرين الأول (أكتوبر) 2008، كانت معظم التوقعات تشير إلى وجود نمو في الطلب على النفط بدرجات متفاوتة خلال الأعوام 2008 إلى 2010، ولكن المحصلة كانت إيجابية دائما. وحسب معظم الدراسات هذه الفجوة تقدر حاليا بأكثر من 4.0 مليون برميل في اليوم.
هذا يعني، أن الصناعة النفطية اليوم تواجه احتياطيا كبيرا جدا في الطاقات الإنتاجية في جميع حلقات الصناعة النفطية: الاستخراجية، التحويلية، الخدمات، الأنابيب، الناقلات البحرية وغيرها. فعلى سبيل المثال: الطاقات الإنتاجية الاحتياطية Spare Capacity في منظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك" قد ارتفعت بصورة حادة جدا، كذلك المصافي قامت بخفض طاقاتها الإنتاجية بصورة كبيرة.
إن الطاقات الإنتاجية الاحتياطية في منظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك" قد ارتفعت إلى أكثر من 6.0 مليون برميل يوميا هذا العام، أي بزيادة تقدر بنحو 3.0 ملايين برميل في اليوم عن العام الماضي، بما يعادل نحو 8 في المائة من الطلب العالمي على النفط. الطاقة الإنتاجية الاحتياطية في دول المنظمة لم تكن عالية بهذا المستوى منذ 1988، وهي أعلى بكثير من المستوى الذي كانت عليه في عام 2005، الذي يعتبر أدنى مستوى منذ أكثر من ثلاثة عقود. وهنا تجدر الإشارة إلى أن سبب تدني الطاقات الإنتاجية الاحتياطية في تلك الفترة يعود في الأساس إلى عاملين: الأول الزيادة الكبيرة غير المتوقعة في الطلب العالمي على النفط في تلك الفترة، والعامل الآخر والأهم هو تراجع الاستثمارات النفطية في المشاريع الجديدة نتيجة تدني أسعار النفط التي شهدتها الأسواق العالمية في الفترة السابقة وخصوصا بين عامي 1998 و1999.
على هذا الأساس وانطلاقا من المستويات الحالية في الطاقة الاحتياطية، فإن سوق النفط في نهاية العقد الحالي سيكون مختلفا تماما عما كان عليه قبل سنوات قليلة. حيث إن التدهور العام في الطاقات الاحتياطية الذي ساد آنذاك، أثار قلق أسواق النفط العالمية من حدوث نقص في الإمدادات نتيجة تزايد المخاطر الجيوسياسية أو أي تعطل في الإمدادات، مما أدى إلى زيادة في تقلبات السوق، وارتفاع أسعار النفط الخام إلى مستويات قياسية. كانت النتيجة انخفاض مرونة الأسواق النفطية العالمية للاستجابة لحالات انقطاع إمدادات النفط، أو الاستجابة إلى الزيادات الكبيرة في الطلب العالمي على النفط. لكن وبحلول عام 2009 الطلب العالمي على النفط تقلص بصورة كبيرة جدا نتيجة انكماش الاقتصاد العالمي كما أسلفنا، وفي الوقت نفسه استمر الاستثمار في تطوير مشاريع جديدة، ما أدى إلى ارتفاع الطاقة الإنتاجية الاحتياطية Spare Capacity لدى دول المنظمة إلى مستويات عالية كما بينا أعلاه، هذا بدوره أدى إلى المساعدة على التخفيف من مخاوف أسواق النفط من حدوث شحه أو انقطاعات في الإمدادات، وقلل التقلبات في أسواق النفط العالمية.
أما في عام 2010 من المتوقع أن ترتفع الطاقة الإنتاجية الفائضة إلى نحو 7.0 ملايين برميل يوميا، هذا أيضا سيساعد على استمرار استقرار الأسواق العالمية. لكن مع وجود مؤشرات وأرقام مشجعة على بدء تحسن الاقتصاد العالمي خلال العام المقبل، وتوقع زيادة الطلب على النفط نتيجة ذلك، من المتوقع أن تبدأ الطاقات الاحتياطية بالانكماش بعد ذلك. حيث إن انخفاض أسعار النفط قد يؤدي إلى خفض الاستثمارات وبالتالي تقليل نمو الطاقات الإنتاجية خلال السنوات القليلة المقبلة. وبالفعل أن انخفاض أسعار النفط على المدى القصير وصعوبات توفير الاستثمارات المطلوبة والتشدد في أسواق الائتمان، من المرجح جدا أن تبطئ وتيرة الاستثمار في المشاريع الجديدة، كما بينا في المقالة السابقة1, حيث من المحتمل جدا أن تراجع دول المنظمة خطط الاستثمار في الطاقات الإنتاجية وخصوصا على المدى القريب والمتوسط. ونتيجة لذلك من المتوقع أن تشهد أسواق النفط العالمية تراجعا في الطاقات الإنتاجية الاحتياطية بحلول عام 2012 أو 2013 وارتفاعا في أسعار النفط إلى مستويات قياسية مشابهة لتلك التي شهدتها الأسواق العالمية منتصف عام 2008.
هل التاريخ سيعيد نفسه من جديد وتشهد أسواق النفط العالمية أزمة في الإمدادات النفطية Supply crunch نتيجة تدهور الطاقات الاحتياطية؟ ما قد يثير قلق أسواق النفط العالمية من حدوث نقص في الإمدادات، ما يؤدي إلى زيادة في تقلبات السوق، وارتفاع أسعار النفط الخام إلى مستويات قياسية من جديد. إن غدا لناظره لقريب.
المطلوب في هذه المرحلة وجود أسعار نفط عادلة تعود بالفائدة على المستهلكين والمنتجين على حد سواء, تشجع الاستثمار في المشاريع الجديدة وتضمن نمو الإمدادات وتوفر طاقات إنتاجية احتياطية كافية وفي الوقت نفسه لا تؤثر في نمو الاقتصاد العالمي والطلب على النفط.