هل تبحث عن الاستثمار أم عن "التدبيلة": عوائد الاستثمار على المدى الطويل

خلال تجربتي المهنية مع عديد من المستثمرين والمستشارين الاستثماريين وجدت أن النقاشات بينهما (والتي يؤسفني القول إنها نادرة الحدوث) تأخذ طابعاً شبه موحد، يمكنني إيجازه في النموذج التالي:

***

المستشار الاستثماري: يا أبو (أو أمّ) فلان، الآن وقد تفهمنا أهدافك الاستثمارية ووضعك المالي ومقدار المخاطرة التي يمكنك تحملها، يمكننا توزيع استثماراتك بطريقة مثلى وتكوين محفظة متوازنة على المدى الطويل.
المستثمر: طيب يا دكتور (أي شخص يقدم المشورة دائماً ينادي "دكتور" حتى لو لم يكن يرغب في ذلك أو حتى إن لم يكن يحمل درجة الدكتوراة)، كم ممكن العائد اللي أتوقعه (أيضاً دائماً المستثمر يتوقع أن هذا العائد بمثابة الضمان، وكأنه يضع ماله في مرابحة أو وديعة معلومة العائد، أو كما لو كان لدى المستشار الاستثماري علم بغيبيات المستقبل).
المستشار الاستثماري: والله يا أبو (أو أم) فلان من المعلومات اللي أعطيتني إياها أظن أننا من الممكن أن نعمل لك محفظة ذات مقدار أعلى من المخاطرة بحيث تحتوي على قدر أكبر من الأسهم مع بعض الفئات الاستثمارية الأخرى، وبناء على الأداء السابق فإن محفظة كهذه قد حققت عائدا قدره نحو 10 في المائة سنوياً (عادة ما يلحق هذه العبارة سيل من الإشعارات والتحذيرات بأن الأداء الماضي لا يعكس بالضرورة أداء المستقبل...إلخ).
المستثمر: بلا 10 في المائة، بلا كلام فاضي. أنت تتكلم عن العائد السنوي ولا العائد الشهري. أنا ما أدور عائد 10 في المائة. أنا أبغى "التدبيلة" (يعني مضاعفة الاستثمار كل سنة أو جزء من السنة). هذا نسيبي (أبو علان) حط فلوسه في ذاك السهم وقبست معه والحين معه بنتلي وكالة. أبغى أسوي زيه. وإذا ما تقدر تساعدني يمكن ما عندك سالفة، لعلي أروح لأبو علان وأخليه يعطيني توصية بسهم جيد أشريه قبل ما "يشد".
أنا أقدّر وجهة نظر هذا المستثمر، ولكن قبل أن نستمر دعونا نلقي نظرة على عوائد الاستثمارات المختلفة عبر السنوات (بل والعقود) الماضية لنرى مدى واقعية توقعاته. فعبر السنوات الـ 20 الماضية وبناء على أداء المؤشرات القياسية المختلفة كان متوسط العائد السنوي على الودائع والمرابحات نحو 5 في المائة، وعلى الصكوك والسندات نحو 6.5 في المائة، وعلى الأسهم 8-18 في المائة (على اختلاف أسواقها)، وعلى العقارات العالمية نحو 6.5-8.5 في المائة، وعلى السلع والمعادن نحو 6.5 في المائة.
لذا وبصفة عامة يمكننا القول إن متوسط عوائد الاستثمارات المختلفة عبر عدد كبير من السنوات الماضية كان يراوح بين 5 و19 في المائة (بحسب الفئة الاستثمارية والمخاطر المنطوية عليها). بالطبع هذه الأرقام تتفاوت من سنة لأخرى، حيث تزيد على المتوسط في سنوات، وتنقص في سنوات أخرى. كما أنه من الملاحظ أن كل فئة استثمارية حققت متوسط عوائد أعلى كانت كذلك تنطوي على مخاطر أعلى حيث يكون التذبذب أشدّ من سنة إلى أخرى.
بالطبع هناك الكثير من الناس الذين سمعنا عنهم صبّوا كل أموالهم في هذا السهم أو ذاك وإذا بهم يصعدون للعلالي ليصبحوا من أصحاب الثروات بين عشية وضحاها. لكن لا يمكن اعتبار ذلك مؤشراً على العوائد المنطقية التي ينبغي أن يتوقعها المرء. فبالمفهوم نفسه بإمكاني أن أسرد لكم قصصاً عن أشخاص اشتروا تذكرة يانصيب أو استثمروا في إحدى مساهمات سوا أو غامروا على طاولة القمار (والعياذ بالله) فربحوا أموالا طائلة، ولكن ذلك لا يمكن أخذه كدليل بأي حال على أن تذاكر اليانصيب أو مساهمات سوا أو القمار هي استثمارات مربحة بطبعها، بل هي مغامرات تخرج من نطاق الاستثمار وتدخل في نطاق الحظّ البحت.
أما الاستثمار المنتظم على المدى الطويل ومع المحافظة على التنويع والذي يحقق معدلات مجارية لتلك المذكورة بعاليه فلن يترك نفس الأثر الرنّان على مسامع أصدقائك، حيث لن تستطيع إبهارهم بقصص استثمارك في أسهم شركة تضاعفت في أقل من شهر، ولكن هذا الأسلوب الاستثماري سيحميك بالمقابل (وبمشيئة الله) من مهانة أن تكون ضحية القصص الأخرى عن كيف أنك فقدت كل مدّخراتك خلال فترة قليلة وانتهيت مديوناً وعلى حافة الإفلاس (وللأسف هذه القصص هي الأكثر شيوعاً في عالم الاستثمار هذه الأيام). وتذَكّر في هذا الصدد أن (وارين بافيت)، أثرى رجل في العالم اليوم والذي قد يُعتبر من أنجح المستثمرين على الإطلاق، قد تمكن من بناء ثروته بتحقيق عائد يبلغ في متوسطه 21.1 في المائة سنوياً. وقد لا يبدو ذلك إنجازاً جبّاراً (خاصة إذا ما قارنّاه بالعوائد الخرافية لبعض الهوامير في الأسواق المحلية)، ولكن الجبّار في الموضوع أنه تمكن من تحقيق ذلك العائد السنوي لمدة 43 عاماً (أي من عام 1964 إلى 2007). وبينما تمكن البعض من التفوق على أداء السيد (بافيت) في أعوام معينة، إلا أن القليل تمكن من مجاراة أدائه بصفة مستمرة على المدى الطويل. ونتيجة لذلك تمكّن من تحويل 100 ألف ريال سعودي إلى أكثر من 375 مليون ريال سعودي أثناء حياته الاستثمارية. هذا هو الاستثمار وإلا بلاش!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي