أوروبا الـمُصَـغَّرة والترويج للأفكار الكبرى

بعد أن أصبحت الولايات المتحدة عاجزة مشلولة الحركة نتيجة لانهيار "وال ستريت"، فلابد أن تكون هذه لحظة أوروبا الآن. ورغم ذلك فقد تضاءل دور الاتحاد الأوروبي في العالم؛ فمنذ 15 عاماً كان رأيه مسموعاً أكثر من الآن. ولقد عبر الدبلوماسي والأكاديمي الآسيوي البارز كيشور محبوباني عن ذلك حين قال: "لم يعد الأوروبيون مؤثرين في القضايا العالمية، بعد أن شغلهم هوسهم بالعملية الداخلية، وتمكن منهم الجبن في مواجهة الولايات المتحدة، وتعاموا عن صعود آسيا".
إذا كان لأوروبا أن تكتسب دوراً أعظم أهمية في الزعامة العالمية، فلا بد أن تعمل على عكس اتجاه انحدارها الاقتصادي الذي طال أمده. وإليكم دلائل ذلك الانحدار:
ـ الملكية: بعد قرون من هيمنة الشركات الأوروبية على العالم النامي بدأ ذلك الميل في التراجع. فالآن بدأ المستثمرون من الهند والشرق الأوسط ومناطق أخرى في شراء مصانع الصلب والسيارات الأوروبية. وفي الأعوام المقبلة سيلحق بهم مستثمرون من الصين وروسيا أيضاً.
ـ أسعار صرف العملات: حين سجل الدولار هبوطاً حاداً منذ عام فأدى ذلك إلى المزيد من تآكل قدرة أوروبا على المنافسة، فقد أثبت البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، الذي يتولى رئاسته أوروبي، عجزهما التام. فتوجه الزعماء الأوروبيون إلى الصين صاغرين يطلبون المساعدة. ورغم ارتفاع الدولار أخيرا في مقابل اليورو إلا أن الأوروبيين لم يكن لهم يد في هذا.
ـ البنوك: حين تعثرت البنوك الأمريكية والسويسرية فلم يلجأ أحد إلى أوروبا طلباً للمساعدة. بل لقد لاذت قيادات هذه البنوك بالشرق الأوسط وسنغافورة والصين التماساً لحبل نجاة. وبعد أن أصابت العدوى البنوك الأوروبية ذاتها فقد تجلت الحاجة إلى الزعامة البريطانية المتشككة في أوروبا للتغلب على التردد والتخبط من جانب فرنسا وألمانيا. وظلت المؤسسات الأوروبية على الهامش.
لا شك أن ابتعاد أوروبا بشكل متزايد عن الصورة وعجزها عن صنع الأحداث لا يرجع كله إلى أخطاء ارتكبتها. فقد نجحت بلدان الأسواق الناشئة في زيادة حصتها في الاقتصاد العالمي، الأمر الذي منحها ثِـقَلاً أكبر في العلاقات الدولية. ولكننا لا نستطيع أن نتهم الآخرين بأنهم السبب الذي يمنع مستوى النمو في منطقة اليورو من الارتفاع عن 3 في المائة، أو أنهم السبب وراء تضاؤل حصة بلدان الاتحاد الأوروبي الـ 15 الأصلية في الاقتصاد العالمي من 19.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 1994 إلى 16 في المائة فقط في العام الماضي.
ورغم أجندة لشبونة وتوسع الاتحاد الأوروبي وإنشاء منطقة اليورو فإن مجمل الأداء الاقتصادي الأوروبي لم يتحسن، وذلك لأن أوروبا أهملت عديدا من القضايا الأساسية واليومية. ويتبادر إلى الذهن هنا ثلاثة أمثلة:
أولاً: ما زال الاتحاد الأوروبي ينفق المزيد والمزيد من موارده في محاولة لدعم القطاعات المتدهورة بدلاً من الاستعداد للمستقبل. ورغم ارتفاع مخصصات تمويل البحوث، إلا أنها لا تتجاوز 4.7 في المائة من مجمل إنفاق الاتحاد الأوروبي، مقارنة بمستويات الإنفاق على الزراعة التي بلغت 31.7 في المائة من مجمل إنفاق الاتحاد الأوروبي.
ثانياً: فشلت أوروبا في إنشاء مجلس بحوث أوروبي مستقل لضمان تخصيص الأموال على أساس الجدارة العلمية. والقدر الأعظم من الأموال المخصصة للأبحاث يذهب إلى مشاريع وهمية ذات علاقة محدودة أو لا علاقة لها على الإطلاق بالعلم، مثل مشروع جاليليو أو المعهد الأوروبي للتكنولوجيا.
ثالثاً: إن الموارد الأوروبية مجزأة، وهذا يحد من القدرة التنافسية الأوروبية. ولقد فشل مرسوم الاستحواذ الضعيف الباهت، الذي تم إقراره بعد ما يزيد على عقد من الزمان من المداولات، في تيسير عمليات اندماج الشركات عبر الحدود داخل أوروبا، وهي العمليات اللازمة لبناء شركات عالمية. كما كان نظام الفوائد الاجتماعية المفروض على الشركات في بعض البلدان الأوروبية البارزة سبباً في إضعاف مرونة الشركات نتيجة لأنظمة العمالة المقيِّدة.
رغم ذلك فهناك عدد من مناطق الإجماع، حيث يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يمضي قُـدُماً. لقد حولت التوسعة بلداناً بعيدة إلى جيران. وهذه البلدان تحتاج إلى الوصول إلى أسواقنا، ولا ينبغي لنا أن نردها خائبة. بل يتعين علينا أن نعمل على توسعة السوق الأوروبية الموحدة من أجل تعزيز النمو وتجنب المزيد من الانقسامات. وهذا يعني دعم أدوات غير جذابة مثل التعريفات الجمركية، والمعايير الصناعية، وتنظيم السوق، والتعاون في مجالات البحوث والتعليم في إطار علاقاتنا ببلدان مثل روسيا ومصر، كما فعلنا مع النرويج وسويسرا.
إن عديدا من المواطنين يعتقدون أن التعاون الأوروبي لا يستفيد منه سوى طبقات متميزة، وأن العمال والمتقاعدين يتحملون ضرائب أعلى لأن التكامل عبر الحدود ساعد الأثرياء في التوصل إلى السبل التي تمكنهم من التملص من تسديد نصيبهم العادل من الضرائب على الفوائد ومكاسب الشركات. إن تبني قواعد مشتركة للقضاء على ظاهرة التهرب الضريبي عبر الحدود، وبالتالي محو هذا التصور، لابد أن يصبح على رأس الأولويات. ولا ينبغي لنا أن نسمح لركاب المجان الذين يرفضون مشاطرتنا معلوماتهم بالمشاركة في السوق المالية المشتركة. ولابد أيضاً من استبعاد التعاون مع ملاذات التهرب الضريبي، مثل إمارة ليختنشتاين وإمارة موناكو، ما لم تتقبل أن كل مواطني السوق المشتركة لا بد أن يسددوا الضرائب حيث يقيمون، وفقاً للقواعد المعمول بها في بلدانهم.
لابد أيضاً من تحسين ترابط السياسات في إطار الاتحاد الأوروبي. لقد ضَـعُف الدافع إلى تنفيذ المزيد من الإصلاحات في السوق الداخلية، الأمر الذي أدى إلى موقف حيث أصبح من الممكن تجاهل حتى القرارات التي يتخذها زعماء الاتحاد الأوروبي في اجتماعات المجلس الأوروبي. أما عمليات التطوير التي تشكل أهمية أساسية لدعم القدرة التنافسية الأوروبية، مثل توحيد نظام براءات الاختراع على مستوى الاتحاد الأوروبي بالكامل، فقد تبين استحالة تنفيذها. فضلاً عن ذلك فلن يتمكن أي من بلدان الاتحاد الأوروبي من تحقيق الهدف الذي حدده الاتحاد بإنفاق 1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على البحوث بحلول عام 2010.
في كثير من الأحيان، يُـسمَح للمصالح الخاصة بنقض المصالح الأوروبية المشتركة. ويتعين على أوروبا أن تحد من تقديم الإعانات للصناعات العتيقة والميتة، وأن تعمل بدلاً من ذلك على استثمار الأموال المدخرة في القطاعات ذات المستقبل.
ليس مما يصب في مصلحة أوروبا أن تعمل على تعزيز نوع من المركزية غير الضرورية. ويتعين علينا أن ندرك أن أوروبا القوية الناجحة ليست زياً يناسب جميع المقاسات، ولا ينبغي للتكامل الأوروبي أن يتحول إلى هدف في حد ذاته، بل لا بد أن يعمل كوسيلة لخلق ازدهار مستدام. كما أننا لسنا في حاجة إلى جهود تجميلية لملاحقة سياسات شاملة للاتحاد الأوروبي بالكامل في مكافحة الأزمة الحالية، بعد أن تبين لنا فشلنا في العمل الجماعي. إن تعزيز قوة أوروبا يعني تشجيع السياسات المعزِزة للنمو، بدلاً من التركيز على من سيحصل على أعظم قدر من الفوائد من صناديق الاتحاد الأوروبي أو مؤسساته.
ولهذا الأمر أهمية خاصة في مجال حماية العمال. فليس من المرجح أن يبادر المواطنون الأوروبيون إلى دعم التدابير اللازمة لتعزيز قوة الاتحاد الأوروبي ما دام هذا يعني أن ظروف العمل لن يتم تقريرها محلياً. ومع ذلك فقد تسببت المحكمة الأوروبية في تغذية مشاعر الإحباط بتقويض الأسس التي تقوم عليها الممارسات المحلية الخاصة بالعمالة في قضايا حديثة بارزة تتعلق بعمال في السويد وألمانيا.
يتعين على أوروبا بكل صراحة أن تكرس المزيد من طاقاتها في الأعوام المقبلة لمعالجة تحدياتها الصغيرة بدلاً من الترويج لأفكار كبرى. وإذا تمسكنا بهذا المبدأ فستكون فرصة الاتحاد الأوروبي أعظم كثيراً في استعادة النفوذ العالمي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي