هل دخلت عاطفة الأمومة مزاد السوق؟
لا شيء أسمى من عاطفة الأمومة، ولا شيء أكثر منها نبلا في العلاقات البينية، وهي التي تقوم على الإيثار الغريزي، والتضحية بلا ثمن، ويشترك فيها الإنسان والحيوان كهبة إلهية لحفظ نواميس الحياة.
هذه العاطفة السامية لم تكن يوما مجالا للمزايدة، لأنها مشاعر غريزية أصيلة، تستعصي على التمثيل أو التزوير أو المحاكاة، وبالتالي فهي تستعصي أيضا على التثمين، فهي دائما خارج نطاق الحسابات، غير أن المصيبة كل المصيبة حينما يتم استغلال هذه العاطفة واستثمارها كعنصر تسويق، والخبر الذي نشرته "الاقتصادية" أخيرا حول قيام بعض الشركات المنتجة لحليب الأطفال الصناعي بشراء ذمم بعض الطبيبات في مستوصفات من القطاع الخاص للترويج لمنتجاتها، بذريعة الحرص على صحة الأطفال، وسلامة تغذيتهم، هو استغلال بشع ولا أخلاقي لأهمّ عاطفة إنسانية وتوظيف يلامس مرتبة الجريمة لمشاعر الأمومة النقية في سبيل المتاجرة بهذه العاطفة، ورميها في دهاليز السوق المتوحشة.
وإذا ما كان قسم شرف المهنة ـ وهو قسم لو تعلمون عظيم ـ عاجزا عن أن يقف أمام هذه الانتهاكات، في ظل تواري الضمير والحس الإنساني خلف سعار المال، واللهاث خلفه بكل الطرق والوسائل المشروعة وغير المشروعة، فإن الحاجة تستدعي وجود قانون صارم لحماية أخلاقيات المهنة، ينأى بالقطاع الطبي عن هذا المستنقع الذي يخلط ما بين الداء والدواء، ولعل قضية الحليب المسموم التي لم تنته فصولها بعد، تجعلنا أكثر يقظة لمعالجة مثل هذه التجاوزات في مهدها قبل أن تستفحل وتستشري بشكل يصعب معه مواجهتها.
إن أخطر ما في الأمر في هذه القضية بعد تجاوز الجوانب الصحية وآثارها على نمو الأطفال هو بشاعة استغلال عاطفة الأمومة التي قد تدفع الكثير من الأمهات إلى عدم التدقيق أو التحقق من هذه النصائح في سياق الحرص المفرط على فلذات أكبادهن، والتسليم بها طالما جاءت من مصادر طبية، وهذا هو مكمن الخطورة، لأننا لا نستطيع أن نفترض في أيّ مجتمع مهما كان مستوى ثقافته الطبية أن يُخضع عمليات الترويج في المجال الطبي إلى معايير ربحية، ما دام أن الترويج يتمّ بواسطة بعض من يُعهد إليهم بمهمة التطبيب. انطلاقا من فرضية أننا إذا كنا نستأمنهم على علاج أطفالنا فكيف لا نثق بنصائحهم، في سياق الارتباط الوثيق بين العلاج والتغذية. وهي عملية قد تمتد أيضا إلى الترويج لبعض العقاقير الطبية بدافع الربح على حساب أخرى قد تكون أكثر نفعا.
وحتى إن كانت هذه القضية ذات إطار فردي، لا يرقى إلى مستوى الظاهرة، فإن حجم الخطورة فيها يجب أن يدفع الجهات المعنية ـ هيئة الدواء والغذاء، ووزارة الصحة، ووزارة التجارة، إلى دراسة هذا الأمر لفض الاشتباك القائم بين مفهوم الدواء ومفهوم السلع التجارية ـ وحليب الأطفال لا نعتقد أنه يبتعد كثيرا عن خانة الدواء الذي يجب أن يكون بمنأى عن المتاجرة أو الدخول في متاهاتها.