مسكن واحد لأكثر من 100 أسرة!
استبشرتُ بلقاء مع محافظ الهيئة العامة للإسكان في صحيفة "الرياض" (يوم الثلاثاء الماضي، الموافق 21 جمادى الأولى 1430هـ) للحديث عن الهيئة وعن واقع الإسكان في المملكة، لا سيما عندما بدأت في قراءته، واستشعرت تفاعل معاليه مع قضية الإسكان، وتصريحه بأن الحصول على المسكن وامتلاكه قد أصبح الهاجس الأكبر لكل أسرة في المملكة، وإشارته إلى تزايد حجم الطلب مقارنة بمستوى العرض، وإيضاحه تدني مستوى ملكية المواطنين للمساكن، وتدني متوسط دخل الأسر، وارتفاع متوسط تكلفة إيجار المساكن، وارتفاع تكاليف بناء المساكن.
وتابعتُ باهتمام مطالعة اللقاء للتعرف على ما قامت به الهيئة، أو تعتزم القيام به، من خطوات لحل مشكلة الإسكان في المملكة، خصوصاً أن معاليه قد أوضح أن من أهداف الهيئة "تيسير حصول المواطن على مسكن ميسر تراعى فيه الجودة ضمن حدود دخله في الوقت المناسب من حياته، وزيادة نسبة تملك المساكن". لكنني لم أجد سوى تصريحات لجهود تنصبُّ حول الحصول على الأراضي، وتصميم المساكن، واستخراج الرخص اللازمة للبناء، والتعاقد مع المقاولين لتنفيذ الوحدات السكنية، فجهود الهيئة لا تزيد على تجربة (مطور) لتطوير المساكن وتوفيرها كمنتج نهائي. وهذه بلا شك خطوة على الطريق، ولكنها خطوة قصيرة لا تبلغ المدى المطلوب، ويصعب معها تحقيق أهداف الهيئة، أو حل مشكلة الإسكان في المملكة بشكل شمولي وفعال.
إن ما طرحته الهيئة للتنفيذ حتى الآن (1691 وحدة سكنية فقط)، ويتوقع أن يتم الانتهاء منها بعد سنتين، وما يجري استكمال إجراءات تصميمه وترخيصه يبلغ (5600 وحدة سكنية)، فما تأثير هذه الأعداد أمام حجم الطلب الحقيقي. إن خطة التنمية الخمسية الثامنة تشير إلى أن العجز يبلغ (أكثر من مليون وحدة سكنية)، أي: بمعدل يصل إلى قرابة مائتي ألف وحدة سكنية في العام (ويتوقع أن تزيد مع ازدياد معدلات النمو السكاني)، وعلى افتراض أن بناء المساكن التي تقوم عليها الهيئة واستكمال تنفيذها يتطلب أربع سنوات فإن ما سيتم توفيره للمواطنين قرابة (1823 وحدة سكنية فقط في كل عام)، فما تأثير هذا العدد أمام الطلب البالغ أكثر من (مائتي ألف وحدة سكنية في العام). إن هذه الخطوة لا تعدو أن تكون برنامجاً يمنح الفرصة لكل (مائة وعشر أسر) للتنافس على السحب لوحدة سكنية واحدة، ففرصة حصول الأسرة على المسكن لا تزيد على (واحد في المائة وعشرة).
أما الأمر الأكثر غرابة أن برنامج بناء المساكن بدأ قبل أن يوضع له تصور شمولي واضح ومتكامل، والدليل على ذلك أن "آليات توزيع الوحدات السكنية على المواطنين وإجراءاتها لا تزال تحت الدراسة ولم تقر حتى الآن" كما أفاد المحافظ، وهو دليل واضح على أن اختيار المواقع، وتصميم المساكن، وبناءها، تم قبل تحديد الأسر المستفيدة، ومعرفة خصائصهم الاجتماعية والاقتصادية، ومتطلباتهم واحتياجاتهم المعيشية، ومقدرتهم المالية، وغيرها من المتغيرات التي يجب أن تؤخذ في الحسبان لضمان نجاح المشاريع الإسكانية وتحقيقها للأهداف المرجوة منها على أكمل وجه.
إن بناء المشاريع الإسكانية على الرغم من تكلفتها الباهظة، وعدم جدواها في القضاء على مشكلة الإسكان؛ تعد غالباً - وفي كثير من المجتمعات - أسهل الحلول، وأكثرها جاذبية للمسؤول والمواطن على حد سواء؛ فالمسؤول يرى نتائج المشاريع حقيقة ملموسة - بشكل واضح، وفي وقت قصير - على أرض الواقع، ويمنحه - من ثم – عرضها في وسائل الإعلام، الإحساس بالإنجاز، وما يتبعه من شعور بالرضا، خصوصاً عند الاحتفال بوضع حجر الأساس، أو قص الشريط، أو تسليم المفاتيح، أو غيرها من المناسبات، كما أن المواطن يفضلها كونها "كعكة جاهزة" تمكنه من الحصول على المسكن دون جهد أو تعب أو عناء، ويغرق في الأحلام ممنياً نفسه بأنه صاحب الحظ السعيد الذي سيحصل على المسكن دون غيره من المواطنين. ولكن تجارب تطبيق سياسة بناء المساكن لجميع المواطنين قد أثبتت استحالة تحقيقها في أكثر دول العالم، وعجزت بالتالي عن القضاء على مشاكل الإسكان وحلها، وإنما يتوقف حل مشاكل الإسكان على تصميم وتطوير باقة من البرامج التي تمكِّن المواطنين بمختلف فئاتهم الاجتماعية وشرائحهم الاقتصادية من توفير المساكن لأنفسهم (من خلال أساليب متعددة من الدعم المادي والفني والتنظيمي واللوجستي، وبدرجات متنوعة)، وهذه المهمة يجب أن تكون الأساس ضمن مهام الهيئة العامة للإسكان، وأن تتجنب قدر الإمكان أعمال تطوير وبناء المساكن للمواطنين.