الوطن والقبيلة.. تكامل أم تضاد؟
تمثل القبيلة في العالم العربي عموماً وفي دول شبه الجزيرة العربية تحديداً البنية الاجتماعية الأساسية في هيكل التنظيم الاجتماعي، ولا شك أن القبيلة ومن ثم القبلية (بتشديد الياء وفتحها) كانت المصدر الرئيس للحروب والنزاعات بين العرب أنفسهم ابتداء من العصر الجاهلي حتى العصر الحديث، وقد أكد ابن خلدون في مقدمته أن الارتباط بين الاستقرار في أي بلد وحجم الروح القبلية (بالتشديد) ارتباط عكسي أي عندما تهدأ التأثيرات القبلية يسود الاستقرار في المجتمع والعكس صحيح. إن الوحدات السياسية في شبه الجزيرة العربية وخاصة السعودية والإمارات قد نجحت في تحجيم الروح القبلية ومن ثم ساد الاستقرار في هاتين الدولتين، وإذا كانت اليمن تمثل النموذج الثالث في شبه الجزيرة العربية من حيث الوحدة فإن ارتفاع سقف المطالب القبلية قد أضر بالروح الوطنية هناك وإن كانت الدولة اليمنية قد نجحت عموماً في توحيد الأراضي اليمنية
مع ثورة الاتصالات وما تمخض عنها من وسائل إعلامية لا تعترف بالحدود خاصة الإنترنت والقنوات الفضائية وجد مناصرو القبيلة مجالاً لإحياء الروح القبلية التي بدأت بوادرها في إتاحة الفرصة وتهيئة الجو للقبلية المقيتة التي نهى عنها رسولنا الكريم، فمن يتابع الإنترنت يجد ما يقلق من حيث انتشار المواقع القبلية التي تمجد القبيلة وتحاول أن تستعيد تاريخها بكل ما يحمل من تناقضات وتشوهات، وفي الوقت نفسه بدأت الإعلانات ذات الطابع القبلي تتمدد في مساحات واسعة من الصحافة تحت غطاءات التهنئة لهذا الشيخ أو ذاك، والأكثر من ذلك بدء بعض الفضائيات تبني البرامج ذات البعد القبلي كالتصويت للشعراء العاميين على أساس قبلي محض إضافة إلى إقامة المهرجانات والاحتفالات تحت شعار القبيلة، وقد أسهم في بروز هذه الظاهرة في دول الخليج عموماً والسعودية خاصة فيما يبدو - وفق نظرية ماسلو - توفر الاحتياجات الأساسية والأمنية مما أدى إلى البحث عن المستويات العليا من الاحتياجات والتي تتمثل في إبراز الذات.
وما يهمنا في هذا المقام الذي نحاول تسليط الضوء عليه هو الخطر المحتمل لهذه التوجهات تجاه واقعنا الذي نحسد عليه والذي لم يكن يحلم به الأجداد وهو بلادنا الممتدة من الشام إلى اليمن ومن البحر إلى الخليج. إن السماح بتسليط الأضواء على القبيلة وإبراز خصائصها سيؤدي حتماً إلى بروز القبلية لأن القبيلة الحضن الطبيعي للقبلية والملهم الأول لها وهي التي تهيئ المناخ الملائم لنمو العصبية القبلية وتغذيها حتى بلغت القبلية مستوى الظاهرة والمقصود بالقبلية هنا أن يشعر الإنسان أن قبيلته هي الأفضل وأنها الأولى في الانتماء قبل أي نظام أو كيان آخر بما في ذلك الوطن.
ولهذا نعتقد بضرورة وضع القبيلة في موقعها الطبيعي الذي لا يلغيها ككيان اجتماعي ولا يلغي الأولوية في الانتماء للوطن دونما تفخيم أو تحجيم لها وهذا يمكن أن يتحقق إذا ما سن قانوناً يمنع القيام بإنشاء المواقع القبلية في الإنترنت ويمنع نشر الأخبار والإعلانات والتهنئات ذات الطابع القبلي بل إن من الضروري والمفيد ألا يسمح بإضافة اسم القبيلة في الوثائق الرسمية التي تخص المؤسسات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني مثل المدارس والجامعات وبطاقة الأحوال المدنية وبطاقة الهوية ورخصة قيادة السيارة وجواز السفر.
صحيح أن القبيلة تمثل قواعد النظام الاجتماعي في الجزيرة العربية عموماً وهو الأمر الذي نود التأكيد عليه مرة أخرى ولا يمكن استئصالها بأي حال من الأحوال بل يخطئ من يحاول إلغاءها ولكن المنطق يحتم أن تبقى القبيلة في نطاقها الطبيعي الذي لا يتجاوز الهدف الأسمى لوجود القبيلة وهو التعارف بشرط ألا يمتد تأثيرها إلى مؤسسات الدولة والمجتمع المدني حتى نضمن عدم امتداد التلوث القبلي إلى الانتماء للوطن الذي يمثل البيت الكبير لكل القبائل.