توحش الثقافة .. التربية بالقسوة والتخويف والتسلط

في النفس الإنسانية منابع للخير ويستوطنها كم كبير من مصادر الطاقة الإيجابية المتجددة ولكن تحيط بها مساحات واسعة, بل هي قارات ممتدة من الغرائز والشهوات والطاقات السلبية التي تحاول إن استطاعت أن تحيد بالإنسان بعيدا عن إنسانيته وطبيعته الخيرة. فهذا الاستعداد الإنساني للخير وهذه الإيجابية المتأصلة داخل الإنسان التي يقابلها شد حيواني وجذب غرائزي سلبي هي التي تدفع بالإنسان إما إلى إنسانيته وإما أن تسقط به في دائرة التوحش واللاإنسانية, فإما ينتصر جانب الخير ويكون هناك خير وعدل ومحبة ورحمة ومودة وتواصل وتعاون وانفتاح وسلام, وإما ينشد الإنسان إلى شهواته وتنتصر عنده الغرائز وتسيطر عليه الطاقة السلبية فتنطفئ في داخله الإنسانية وتنعدم عنده الرحمة وتتفجر فيه رغبة القتل وممارسة العنف, وبمثل هذا الإنسان ينتشر الظلم والعدوان وتسود حالة الكراهية والانكماش على الذات والنفور من الآخر وعدم الرغبة في التواصل والانفتاح على الآخرين وينعدم الشعور بالأمن والسلام.
هذا الاستعداد للخير, وهذه القابلية للسقوط في دائرة الشر والتوحش واللاإنسانية تجعل من الإنسان في حاجة إلى هداية وتربية, تعزز فيه إنسانيته وتوسع عنده دائرة الخير وتوظف ما يختزنه من الطاقة الإيجابية, وفي المقابل ترشد غرائزه الجسدية وتحجم طاقاته الشهوية والسلبية. التربية تسعى إلى تفجير طاقات الخير في الإنسان وتهدف إلى بناء الإنسان في إطار شامل ومتكامل ومتوازن, فالتربية في الحقيقة نظام لتنمية الإنسان بالشكل الذي يعود بالخير والسعادة عليه وعلى مجتمعه. وعندما لا تكون هناك تربية أو تكون هناك تربية, ولكن في إطار مختل وعلى أسس وقواعد ليس فيها ما يحفظ للإنسان حريته وكرامته وإنسانيته فإن هذه التربية تنتج لنا إنسانا ضعيفا وذليلا وضيق الأفق ومضطربا نفسيا وغير مبدع ومسلوب الإرادة وغير وسطي وموضوعي في التعامل مع نفسه وفي بناء علاقاته مع الآخرين. خطورة التربية أنها هي المسؤولة, أو على الأقل أن لها دورا كبيرا في تعزيز أو تقويض مهارات الإنسان في التعامل مع نفسه ومع الآخرين من حوله, فالوعي بخطورة التربية يشكل خطوة مهمة جدا في طريق تحرير إنسانية الإنسان وتخليص المجتمع من الوقوع في دائرة الكراهية والعنف.
الإنسان الذي يريد أن يحتفظ بإنسانيته لا بد له أن يهتم بتربية نفسه وكذلك المجتمع, فالمجتمع الذي يريد أن يعيش بسلام ويريد أن يؤسس بنيانه الاجتماعي في إطار خال من الظلم والكراهية والاصطدام والعنف لا بد له من أن يهتم بتربية أفراده وتنميتهم إنسانيا. . التربية هي الأداة المهمة والفاعلة في إصلاح ثقافة المجتمع, والمجتمع من غير ثقافة صالحة فإنه يصبح مجتمعا, في أحسن حالاته, ضعيفا أو مريضا ليس عنده من القوة أو الممانعة من الوقوع في دائرة الشلل أو الفوضى أو العنف.
هذه الأهمية المستحقة للتربية هي التي دفعت بكثير من المهتمين بالشأن الثقافي والتنمية الاجتماعية إلى الدعوة والمناداة بضرورة الإصلاح التربوي, فهم يرون أن التنمية لا يمكن أن تتحقق, ولا يمكن للمجتمعات العربية أن تنهض بنفسها علميا وماديا وتنظيميا من غير أن تنهض بنظامها التربوي, فكل هذا الاضطراب الذي تعيشه الشعوب العربية, وكل هذا الإخفاق في المجال التنموي مقارنة بالشعوب الأخرى هو بسبب ما تعانيه التربية العربية من ضعف شديد في أسسها وبنيتها وتوجهاتها وأساليبها, فالتربية العربية تفتقد تلك الأسس الفكرية التي تجعل منا مفكرين ومبدعين ومتفوقين, وهي بسبب بنيتها الضعيفة وغير المتماسكة جعلت منا شخصيات مضطربة وغير متوازنة ومشوهة نفسيا, ولأن توجهاتها لا تخدم العملية التنموية صارت قدراتنا مشلولة وطاقاتنا معطلة, وأما أساليبها, التي هي في الغالب غير إنسانية وغير مهتمة بحقوق الإنسان وكرامته, فإنها خلقت منا أفرادا غير قادرين على الإنتاج والإبداع ومواجهة المشكلات وحلحلة الأزمات, وأدت بنا إلى أن نعيد إنتاج هذا الامتهان وهذه الدونية في بناء علاقاتنا بعضنا مع بعض وعلى المستويات كافة.
من غير حاجة إلى الإطالة والتفصيل في وصف ما يعتري التربية من أوجه الخلل والقصور, ما يفرض علينا ضرورة مراجعتها وتدقيقها وإعادة النظر في كل تفاصيلها وأشكالها لتخليصها من القيود التي لا تراعي إنسانيتنا ولا تحفظ لنا كرامتنا ولا تفجر فينا طاقاتنا وقدراتنا الإبداعية, إلا أننا نستطيع أن نرصد جملة من السمات التربوية التي كانت وما زالت المسؤولة عن تشويه الجانب الإنساني في شخصياتنا وفي بناء مجتمعاتنا. من هذه السمات التربوية المتهمة بتشويه إنسانيتنا وتقوية جوانب التوحش في شخصياتنا, والتي صار من الضروري فهمها والإحاطة بها من أجل محاصرتها والتخلص منها ما يلي وباختصار:
1 - التلقين وإعطاء الأوامر: أهم ما تسعى إليه التربية هو بناء الشخصية وتنمية عقل الإنسان, وأما ما تحفل به التربية العربية هو اهتمامها بالتلقين والتشديد في توجيه الأوامر للمتعلمين بتلقي المعلومات كما هي من غير تفكير في مضامينها ولا تحليلها ولا نقدها, فخطورة التلقين والتعلم تحت مظلة الأوامر المشددة تجعل من الإنسان المتعلم غير قادر على فحص ما يتبناه من أفكار وآراء, وهكذا شخصية من السهل توظيفها للقيام بممارسات تلحق الضرر بنفسها وبمجتمعها.
2 - القسوة: عندما يتعرض الإنسان إلى قسوة في تربيته فإنه يعيد إنتاج هذه القسوة في تعامله مع الآخرين, فالتربية العربية كما هي السياسة العربية وكما هي الأسرة العربية وكما هي الأخلاق العربية ميالة وبشكل كبير إلى القسوة كأسلوب تربوي, فالأب يعتبر القسوة وليس الحب خير وسيلة لتربية أبنائه, والمدرس يرى أن من حقه أن يمارس القسوة اللفظية والنفسية وحتى البدنية في علاقته مع طلابه, والرجل يجد قساوته في التعامل مع زوجته جزءا من رجولته, والمدير أو الرئيس يرى أن إدارته غيره تختل من غير أن يظهر قساوة في تعامله معهم. وعندما نتلقى القساوة في البيت والمدرسة والعمل والبيئة المحيطة بنا ومن ثم نحن نعيد إنتاجها فإن هذا سينتهي بنا إلى مجتمع تغيب فيه الرحمة وتنتشر فيه الكراهية والعنف.
3 - التسلط والتخويف: إن التربية السلطوية التي تعتمد الخوف ومصادرة حقوق الآخرين والتهديد بالحرمان من الحقوق واعتماد العقوبة والتمييز في تحديد العلاقات الاجتماعية تصبح بطبيعتها أرضا خصبة للفتن وشيوع الكراهية وممارسة العنف, وعندما يمتحن مجتمع ما بالفتن والكراهية فإنه سيخسر كثيرا من إنسانيته وتقع المسؤولية في ذلك على ما ينتهج من تربية سلطوية.
أخيرا, إننا عندما نفشل في تربية إنسان متوازن عقليا ونفسيا وسلوكيا فإننا لا نستطيع أن نخرج بمجتمع متماسك وفاعل وقادر على مواجهة التحديات, فعندما تكون هناك تربية فيها تسلط وقسوة وعنف وتهديد وإكراه وزرع الكراهية والتمييز في النفوس فإن المجتمع بالتالي سيعاني ثقافة الكراهية والتوتر وعدم تقبل الآخر والرغبة في الاعتداء ومصادرة حقوق الآخرين. الاهتمام بالتربية القائمة على تعزيز إنسانية الإنسان هو المقدمة التي لا بد منها لنهضة أي مجتمع. وللحديث تتمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي