علي الغفيص.. ومنطِقـُه الحريص
.. رسالة هاتفية:
" الأخ نجيب: مبروك لكم على تميِّز ضيفكم وأدائه". أضاءتْ الرسالةُ قلبي، فقد كان يعنيني جداً رأيَ مُرسِلِها، وهو رجلٌ حُكـِمَ عليه ألا يقول إلا الصراحةَ، كما هي في داخل ضميره، وكما تتشكل في عقلِه.. وإني أضع يدي على قلبي قبل أن يصلني أيُ شيءٍ منه وكثيرٌ ما يصلني.. وأكثره ضربٌ على الرأسِّ.. رأسي!
ولي عودةٌ للرسالةِ بنهاية المقال.
.. عندما تريد أن نتحدث عن قياديي التدريب في أي بلاد، كالدكتور علي الغفيص في بلادنا فيجب أن نعرف ما هو التدريب، وبالذات ما معنى التدريب ليس اصطلاحا فقط بل كحاجةٍ من حاجات ومقتضياتِ الأمة. وفي رأيي أن التدريبَ، كما عكفتُ اليومين الماضيين في القراءة عنه في المراجع المختصة، وبالنقاش مع كبار خبراء التدريب في البلاد وخارجها، ومنهم رئيس التدريب والتطوير البشري السابق في شركة سيمنس بكاليفورنيا، وبروفيسور سعودي، وآخر ألماني، هو عمليةٌ غرضُها التوصل لتملك المعرفة، وتحسين الملكات، وتطوير المهارات، وتقويم المفاهيم والسلوكيات ليصب كل ذلك – مباشرةً – في تحسين الأداء العملي للموظف، أي المتدرب الحالي.
والتدريبُ المهني والتقني هو بضاعة السوق، وليس بضاعة الأكاديميا ولا البحوث. وهذا ما وضح في النقاش الذي دارَ بين الحاضرين في منتدى "أمطار" ليلة الإثنين الفائت حين كان المتحدثُ محافظ المؤسسة المعنية بتدريب شبابنا مهنيا وتقنياُ الدكتورُ علي الغفيص.
لم يكن النقاشُ عادياً الذي جرى بين العقول الحاضرة، فقد كان هناك نقاشٌ معرفي واصطلاحي وتحقيقي وقف له الدكتور الغفيص بإفاضة عقلية وتسلح منطقي، وقد يكون أقنع المداخلين المعترضين والمنتقدين وقد لا يكون، ولكن كان النقاشُ علمياً منطقياً هادئاً ومنساباً.. فقد كان الإخوة المتميزون من أعضاء مجلس الشورى مثل الدكتور الخيال، والدكتور الكثيري، والدكتور الحلوة، والدكتور بكري، والدكتور السليم، والدكتور القحطاني، قد مثلوا الجهة الناقدة أو الموجهة أو المشجعة أي في تفاوتٍ طيفي في الموقع الآخر، بل إن الدكتور بكري اعترض صريحا على شعار المؤسسة " التدريبُ أولا.."ً، وقال بلا مواربةٍ إن هذا تهميشٌ للعلم، أي أن المتدربين يتخرجون جُهَلاء.. مما يضطر إلى إعادة تكوينهم المعرفي، والدكتور البكري يعرف أن يسنّ سكيناً نقدياً حادّا وهو يقدم لك في اليدِ الأخرى وردةً تفوح بعبيرِ المحبة.
والجانبُ الآخر مثـَّله جانب السوق بمداخلةٍ قوية من الأخ هشام الزامل، وهو من رجال الصناعة الذين يهيمون بالمهنية والتقنية العمَلية، والشاب الموسى، ورجل الأعمال فوزان الفوزان، وكلهم يقودون شركاتٍ مؤثرة في البلاد.. وكان لهم رأي آخر مهمّ، ذاك الرأيُ هو كل ما يريد أن يحققه الدكتور علي الغفيص كما عقـّبَ، لماذا؟ لأن رجال الصناعة والأعمال هم زبائنه، هم من سيتولى توظيف مخرجاته، وهم من يهتم برأيهم بشكلٍ عملي، ويضع آراءَ الآخرين على رأسِهِ كاسترشادٍ على الطريق.. لذا قال الغفيص بمنطقٍ حريص: نحن لا نقدم الحشوَ المدرسي، فهذا ما أرهق أجيالـَنا وكسر ظهور أطفالنا بحقائب مثقلةٍ بالحشو، أنا مهمتي أن يخرج المتدربُ أو المتدربة من جهازي ليجد عملاً.. ويكون عملاً كريما قابلا للتطور والتطوير، وتابع بنباهةٍ – بعد أن أوضح نقطته - "بأن التدريبَ يأتي أولاً، صحيح ، ولكن ليس وحيدا.. فحين تعتني بالتدريب يجب أن تقدم وسيلته المنهجية العقلية وهي التعليم.. فلا تدريب بلا تعليم.. وجهان لعملة واحدة، ولكنه تعليم يخدم الغرضَ التدريبي". وقد كان "هشام الزامل" قد قام بزيارة شخصية غير مجدولة مع فريقه، كما قال، للمعاهد المقامة مع القطاع الخاص ولفت نظره الحرصَ على التخصص العملي الدقيق على رأس التطبيق، والتأكيد على تعليم المتدربين الإنجليزية المتخصصة من قِبَل أبناء اللغة ذاتها.. مؤكداً: "إن لم يكن هذا تعليماً فما هو التعليم إذن؟".
وكانت مداخلة الدكتور علي البراك رئيس شركة الكهرباء قوية وواضحة في التدليل على النهج التدريبي مع المؤسسة، ولكن العقول المتأهبة كانت جاهزة لتتلقفها من كل ضفة، لمّا أشار إلى أنّ خريجي المؤسسة يخضعون لتدريبٍ على رأس العمل، فوجد المعارضون أنها تأكيدٌ على نقص الإعداد التدريبي لمخرجات المؤسسة، بينما أكد المؤيدون في الضفةِ الأخرى أن التدريبَ لا يأتي ثوبا على القياس، ولكن قماشاً جيدا قابلا للتشكيل على القياس. كمن يشتري بيتاً جاهزا جيّد البناء، فإعادة تأثيثه وتقسيمه على رغبة قاطنيه لا تقلل من جودته بل مترابط من حيث الأهمية والتوافق والاحتياج.
في رأيي أن التدريبَ كما قرأتُ ليس هو ما يحقق لك رغبات الحياة، ولكن معرفة طرق الوصول إلى تحقيقها. ليس معرفة الهدف بل وسيلة الوصول إليه، ليس التحليقُ في الأجواء ولكن معرفة طريقة الإقلاع. ربما هذا ما اتفق عليه الحاضرون، وكان لكلٍّ طريقةُ فهمٍ للوصول إليه.
وكما قلتُ في أول المقال كنتُ متوجِّساً من الصامتِ على غير عادةٍ الدكتور "محمد القنيبط" الذي لا يجمّل حقائقَ ما يرى.. وكانت تلك الرسالة منه بعد أن انتهى الحفل.
فتنفست الصعداءَ، ونمتُ قرير العين!